مصطلح العارفين، ليس حكرا على المتصوفة، وإنما هو ملك مشاع، حيث ان لكل عالم رجاله وعارفوه الخبراء بشؤونه، وفي هذه الوقفة استحضرت ثلاثة كتب قرأتها منذ مدة طويلة، وهي اكتب في تقديري كان ولا يزال لها ثقلها في فهم ما يجري بالعالم من صراعات وتوافقات وفوارق جوهرية وشكلية. وهذه الكتب هي "الفكرة الآفروآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ" لمالك بن نبي، و"نهاية التاريخ" لفوكو ياما و"صراع الحضارات" لهنغتنغتون. بمناسبة انعقاد مؤتمر باندونغ سنة 1955، صدر لمالك بن نبي رحمه الله كتاب "الفكرة الآسيوية في ضوء مؤتمر بلاندونغ"، وكان الكتاب بمثابة الوثيقة الاستراتيجية لدول العالم الثالث الإفريقية الآسيوية، لكيفية التعامل مع الغرب، مع الكشف عن طبيعة الغرب وثقافته الجذبية، وخصوصيات العالم الافريقي الآسيوي، ومساحات اللقاء بين شعوبه ونظمه الثقافية والدينية والسياسية؛ بل تجاوز بن نبي في هذا الكتاب مجرد التحليل للظواهر والفئات السياسية والاجتماعية، إلى الكشف عن جديد المرحلة في العلاقات الدولية، التي عبر عنها بمصطلح "العالمية"، حيث نبه إلى أن العلاقات الدولية لم تعد تنفع العلاقات والنشاطات فيما بين الدول إلا في إطار تكتلات جهوية وإقليمية، لأنها الآن –سنة 1955-، أضحت عالمية، أي أن المشاريع الناجحة هي مشاريع التكتلات وليس المشاريع القطرية عند الدول، واستشف هذا من النظام الأمريكي الممدد على طول قارة وعرضها، وكذلك الاتحاد السوفييتي المشكل من شعوب وليس، الذي أطلق عليه مصطلح "محور واشنطنموسكو" وكذلك فسر المبادرة الأوروبية المسماة ب"السوق الأوروبية المشتركة" التي تحولت فيما بعد إلى الاتحاد الأوروبي. ومن ثم فإن نجاح الأفارقة والآسيويين لن يكون إلا في إطار تكتلات إقليمية وتحالفات سياسية ومشاريع ثقافية موحدة أو تقاربية فاعلة. وبدلا من أن يحدث هذا الكتاب ثورة في عقول الأفارقة والآسيويين، فإنه مر على رؤوس النخبة مرور الكرام على النيام واللئام؛ بل إن جهات رسمية وعدت بطبعه ثم تراجعت. وبعد ربع قرن من الزمان صدر كتاب "نهاية التاريخ" لفرانسيس فوكو ياما، و"صراع الحضارات" لصومويل هانغتنغتون، يبشران بالنظام الأمريكي واستراتيجيته المستقبلية في التعامل، تجاه الشعوب والنظم بعد الحرب الباردة، والتبشير بالأحادية القطبية بعدما كان العالم محكوما بقطبين إثنين، وتلقى العالم ونخبه المهزوزة في عالمنا الأفريقي الآسيوي، هذين الكتابين اللذين يحملان صيغ "الترهيب والترغيب" بقبول حسن، لا سيما الكتاب الأول الذي يحمل بشائر الديمقراطية الجديدة. أما كتاب "صراع الحضارات" فأعتقد أنه يمثل الخط العريض للسياسة الأمريكية في العالم، ورغم أنه يعتبر بلغة الإصدارات المكتبية قديما الآن، إلا أنه المؤسس لفكرة التصنيف التي بنى عليها الرئيس بوش سياسته، "محور الخير ومحور الشر" و"من ليس معنا فهو ضدنا". وهذا التصنيف مبني على تلمس العدو المفترض الذي تكلم عنه صاحب صراع الحضارات بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وهو "الكنفشيوسية والإسلام"، ومن ثم فإن العالم بهذا المنطق قسمان لا ثالث لهما، وهما: الإسلام والكونفشيوسية، ومن ورائهما بطبيعة الحال جميع الثقافات الشرقية من جهة، والأمريكان ومن ورائه جميع قوى الغرب المتغطرس من جهة أخرى، وهو المنطق الذي بنيت عليه فكرة الفوضى الخلاقة، التي تعتمد الدفع بالفوضى إلى أبعد حد وأعلى مستوى، في جميع المجالات، الاستخباراتية والسياسية والعسكرية والثقافية...، بحيث تكون الآلة شغالة دائما في إطار المصلحة الأمريكية، ولو كان ذلك على حساب مصالح الشعوب التي تتآكل بسبب المعارك المشتعلة والخلافات المؤججة هنا وهناك. وإذا كان الذي يجمع بين العالم الإسلامي والصين، كونهما يجتمعان في إطار الشعوب المقاومة للإستعمار، فإن قيادة الأمريكان للغرب الاستعماري، تكمن في طبيعة نظامه المفتوح الذي تجاوز منطق الدولة القطرية التقليدية، كما هي معروضة في كتابه "نهاية التاريخ"، وهو الكتاب الذي سوَّق للتجربة الأمريكية وتأهلها للهيمنة على العالم، كما سوق كتاب االصراع للمنهجية في التعامل مع الآخر. لقد انتهى فوكوياما إلى ان التجربة الأمريكية هي التجربة الأكمل والنظام الذي لا يضاهيه نظام. حيث أن الديمقراطية الأمريكية أو الديمقراطية الجديدة كما سماها فوكوياما، هي أرقى ما توصل إليه الإنسان؛ لأنها تمثل خلاصة تجربة العالم، في النظم الاجتماعية والثقافية والسياسية. فقد نشأت في مجتمع متعدد الأعراق والألوان وتتضمن ثقافات متعددة ونظامها فدرالي إلخ..، إضافة إلى أن المجتمع الأمريكي نظام مفتوح لا عنصرية فيه، وكل شيء فيه قائم على المنافسة والحقوق والواجبات المنضبطة، ومن ثم فهو النظام الذي يصلح للعالم؛ بل عليه أن يتبناه. لا شك ان المجتمع الإنساني في أمسِّ الحاجة إلى النظم الجامعة للثقافات والعقائد والأعراق والألوان على مساحات مشتركة، وليت التجرية الأمريكية كانت حقا وصدقا كما يقول فوكوياما تجربة إنسانية راقية، ولكنها في الواقع ليست بهذا المستوى الذي تكلم عنه، وإنما هي تجربة نجحت حقيقة في تحقيق الرفاه الاجتماعي للشعب الأمريكي، وحفظت له كرامته، ولكن رفاهيتها كانت على حساب شعوب أخرى، كما وقع مع النظم الاستعمارية الغربية من قبل في إطار النظام الاستعماري تماما خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين. إن قراءتي لهذه الكتب الثلاثة "الفكرة الآفروآسيوية" لبن نبي و"نهاية التاريخ" لفوكو ياما، و"صراع الحضارات" لهانغتيغنون، تبين لي أن الفرق بين محور واشنطنموسكو ومحور طانجا جاكارتا على حد تعبير بن نبي في التعامل مع الكُتَّاب والكتب كبير جدا، حيث أن بني نبي من أبناء المستعمرات وفوكوياما وصاحبه من أبناء صناع القرار في العالم، والكتاب الأول موجه إلى شعوب مغلوبة أمية لا تقرأ ولا تكتب، والكتابين الباقيين لرجلين من دولة تصنع العالم على عينها، فكانت النتيجة ان الأمريكان والغرب عموما، قفزوا على هذا الواقع وتجاوزوه إلى رسم الاستراتيجيات والغايات الكبرى، والتبشير بما عندهم من جديد لفرض سيادتهم على العالم.. ففرضوا على العالم قيمهم، وعوضوا الميثاق الاستعماري بمحتويات جديدة تحمل عنوان "العولمة"، رغم ان بن نبي نبه إلى هذه القيم الجديدة كما يريدها الغرب وكيف ينبغي أن يصر العالم الافريقي الآسيوي على قيمه ليساهم في هذه العالمية بثقافته، ولكن لما كانت هذه الأفكار من رجل من أبناء المستعمرات وموجهة إلى قوم غير قادرين على قراءته أساسا، كان هذا الخلل الذي نشاهده في السياسة الدولية والعلاقات الدولية، فأنتج الغرب، سقوط جدار برلين والاتحاد الأوروبي والمزيد من الشركات العملاقة المتحكمة في رقاب العالم، كما وضع لعالمنا المغبون مشاريع التدمير "الفوضى الخلاقة"، و"استراتيجية الصدمة"، وصناعة خريطة العالم "بالشرق الأوسط الكبير" و"الشرق الأوسط الجديد" وفيما يسمى .ب"خريطة الدم"، ومشروع برنارد لويس التقسيمي. اما نحن في عالمنا الافريقي الآسيوي، فلم ننتج بكل أسف إلا الخراب، بل إن ما ننتجه من أفكار وصيغ عملية في قضيانا التنموية، لم تكن بعيدة عن مراصد الغرب، ولذلك كانت أنظمتنا واجتهاداتنا ومنها المبادرات الشعبية الفردية، جلها تصب في غير اوانينا، فالحرب الأفغانية التي خاضها شباب العالم الإسلامي باسم الجهاد لم تحقق للأفغان شيئا؛ بل نتائجها كانت تصب في بحيرة الأمريكان، وكذلك ما كان بعد ذلك من اهتزازات في العالم الإسلامي، جميعها مكن للغرب ما لم يتمكن منه خلال فترة الاستعمار، ابتداء من الاستقلالات المنقوصة وسياسات الجمهوريات والملكيات على حد سواء وانتهاء بتنظيم القاعدة ومشتقاته من أسامة بلادن رحمه الله إلى تنظيم الدولة الإسلامية. لا شك أن تضحيات الشعوب الافريقية الآسيوية كانت كبيرة وحققت مكاسب، ولكن هذه المكاسب لم تحقق المطلوب والمفترض من الحريات والعدل والاستقرار؛ لأن الغرب كان يريد لها أن تكون منقوصة، فّأقر مبدأ تقرير مصير الشعوب وتمكينها من نيل استقلالها، ولكنه هيأ لها محاضن اخرى ربما كانت أكثر فاعلية من الوجود الاستعماري نفس، ومن ثم كان ما قمنا به خلال الستين سنة الماضية، عملا بطوليا ولكنه لم يرتق إلى مستوى التحرر من ربقة الاستعمار الذي لا يزال يلازمنا ملازمة الشيطان.