بدت عليه علامات الحيرة والدهشة، تساءل، منذ احتلال بلاده، إلى أين تتجه الأمور بنا؟... * هذا السؤال لم يكن بالنسبة له تعبيرا عن محنة آنية، إنما هو امتداد لوضعه منذ سنوات في الجيش العراقي، وآنذاك كان مقصد السؤال: كيف السبيل إلى الخروج من تسلط نظام قام على البطش؟، لكنه اليوم يرى نفسه في ظل واقع ليس له نهاية. * مرة أخرى يعود صديقي إلى السؤال، بعد خمس سنوات لينقل الحالة العراقية من الخاص إلى العام ويكون السؤال هذه المرة، أين يلجأ الإنسان العربي والمسلم؟، وتبعا لذلك: ماذا تريد الحكومات منه؟ وماذا تريد منه الأمم الأخرى في تكالبها؟. * يرى صديقي في إجابات تلك الأسئلة، إن تحققت، رصدا ضروريا للتناقضات، فالإنسان العربي بالنسبة له، تائه في عالم متلاطم، دليله في ذلك نسبة المشاهدة العالية للبرامج الفنية والدينية وبرامج الشعوذة والسحر، بحيث أن نفس المشاهد تراه في كل حين يسيطر عليه هواه لعدم الثبات على موقف، وهو في ذلك رغم الحيرة لا يتناقض مع ممارساته اليومية، حيث الإجبار المتواصل للجم السلوك سواء أكان خيرا أو شرا، فلا العابد بإمكانه التقرب من ربّه لدرجة لا تزعج الأجهزة الأمنية، ولا العاصي بإمكانه أن يذهب في خطيئته، ثم يعود منها تائبا، ففي كثير من دولنا العربية ملفات السفلة عند الأجهزة الأمنية أقل سوءاً من ملفات التقاة، ولكل درجة، وبالطبع أهل التقوى أكثر خطورة على أجهزة الدولة من الذين يعيثون في الأرض فسادا. * صديقي العراقي وبعد تجربة مريرة يرى من الصعوبة بمكان الفرز في نظر الأنظمة، وانتقلت العدوى بعد ذلك للشعوب بين ماهو مقاومة وما هو إرهاب، وإذا كانت التجربة العراقية جلية بالنسبة إليه فهي ليست بمعزل عما يحدث في الدول العربية، فكل منّا عند إشراقة كل شمس وعند المغيب أيضا يحلم بيوم يكون هو نفسه، دون أن يتلبسه شيطان الآخرين أو زبانيتهم أو حتى ملائكتهم، إن كان لهم ملائكة، يحلم بأن تكون صلته بربه خالصة، ومن اتبع هواه يريد أن يكون بعيدا عن ضغط القوانين والسلطات؛ بمعنى أنه هناك حالة من البحث كأنها غابرة في أزمنة ما قبل الرسالات يتشوق الناس فيها إلى علوّ دون فواصل أو قواطع أو وسائط تحول بينهم وبين التعلق بالسماء. * إننا والحال تلك، نعبّر عما في الضمائر ولو حملت أوجه الباطل لنكون أسوياء مع ما في أنفسنا، فلا أحد، طبقا للمنظومة القانونية وإن ادعت الأنظمة ذلك، ينظر إليه بعين الرضا إن كان تقيا، بدليل رصد حركة المصلين في بعض الدول العربية، خاصة من يولون وجوههم شطر المساجد عند صلاة الفجر، ويقابلهم، كما ذكرنا في البداية، ملفات السكارى والحيارى. * الكل مطارد في معظم دولنا العربية، وهنا نتساءل أي تطبيقات للإيمان تلك التي تقض مضاجع الملتزمين، بسوط أهل السلطة؟!، وأي معصية يريد أصحابها التوبة يوما ما وهم لم يكملوها؟... فالمواطن العربي هاهنا ليس مسموحا له بالتوبة ولا مسموحا له الغرق في المعصية، وكثير من الأنظمة عاجزة عن الجهر بالسوء مع أنها تمارسه، وأخرى تطاول فيها الأقزام على رسالة النبوة، فاعتقدوا أنهم الأولى بالفصل في القضايا المصيرية للناس مع أنهم بقصد أو بدونه يزعزعون مناطق الإيمان باتساع مساحة الجور التي اعتمدوها منهجا. * لنتسائل جميعنا وفي رقعة هذا العالم الإسلامي الممتد: أليست الأسئلة السابقة تراودنا كل لحظة وتخيفنا تقييمات الأجهزة لنا إيمانا وفجورا؟، ويستثنى من ذلك الذين يروّجون للمعصية من موقع الترف والجاه والسلطة... أولئك الذين يسترون أنفسهم في السمر بدجى الليل رغم الأضواء الكاشفة، ويكشفون عورات الناس بالقوة وبأساليب أخرى، فقط لأنهم أناس يتطهرون. * إذا نحن في حيرة ودهشة وضياع، وطبقا لقاعدة »الدين المعاملة«، ما كان للدماء أن تستباح بهذا الشكل في أوطاننا لو أن هناك إيمانا يتساوى ظاهره بما في القلوب والضمائر... لقد تشابهت لدينا مواقف الحياة مثلما تشابه البقر على بني إسرائيل، فصارت حالتنا كما نرى، وإنها لذاهبة إلى نهايات محزنة ما لم يتم تمييز الخبيث عن الطيب، وما لم يتم الإعلان صراحة عن شروط التعايش ضمن قيم تثبت أركان الإيمان في علاقاتنا الاجتماعية. * من الناحية العملية، لا أحد منّا ينكر درجة الضبابية التي تعتري مجمل مواقفنا، لكنها ليست حالا من التسليم نقرّ بها لنبتغي عند الغربيين سبيلا، رغم أن كثيرا من قادتنا وعناصر النخبة يعتقدون في ذلك، والصراحة في مثل هذه المواضيع تؤرق أولئك الذين يعتبرونها مطية للوصول إلى أهداف واضحة لدى قادتهم فقط. * للخروج من حالتنا السابقة الذكر، علينا النظر إلى علاقتنا بالمساجد وبالتالي العبادة، من زاوية التغيير المطلوب للدور وللوظيفة وإلى إدراك أهمية الزمن في تحقيق القيم، هذا من ناحية وتصغير المواقع الأخرى للأجهزة وللحكومات ولمؤسسات الدولة بشكل عام بما في ذلك القضاء، فبيوت الله أكثر علوا والقادمون إليها في أمان، وحراستها من أهل الشر تنطلق من اعتبارها موقعا أساسيا للدولة إذا احتمى به الشعب تراجع دورها، وباختصار لابد من إقامة علاقة سوية بين الدول والمساجد وبين مؤسسات الدولة والشعوب، لعل ذلك يخرج الشعوب الإسلامية من حيرتها ويجعلها في إيمان قاطع بالملجأ والآمان وبالتالي يمكن استعادة قيم تناثرت هنا وهناك فضاعت أهميتها بجهل أهلها.