غيب الموت، أمس الأول، الدبلوماسي المجاهد الكاتب محمد الميلي بباريس عن عمر يناهز87 سنة، بعد صراع مع المرض. و عرف الفقيد بإسهاماته العديدة في المجال الفكري والتربوي الدبلوماسي والإعلامي، حيث انخرط بعد تخرجه مباشرة في الخمسينات بشهادة اللسانس في التاريخ والجغرافيا في جمعية "شباب العلماء المسلمين" ودرس اللغة العربية في معهد ابن باديس بقسنطينة. وفي سنة 1957 أسندت إليه مهام التحرير بجريدة المجاهد، قبل أن تسند إليه إدارتها، كما أدار أيضا جريدة الشعب إلى جانب مناصب عديدة بوزارة الإعلام والمدرسة العليا للصحافة وكذا المجلس الشعبي الوطني. تم تعيينه سفيرا للجزائر باليونان ومندوبا دائما للجزائر في اليونسكو وسفيرا بالقاهرة قبل أن تسند إليه حقيبة وزارة التربية. وأكدت السيدة زينب الميلي، أن زوجها الإعلامي والوزير والسفير "سي" محمد، أصر أن يدفن في الجزائر إلى جوار أمه رغم رفض أبنائه ذلك، وذكرت نجلة العلامة الشيخ العربي التبسي في اتصال مع "الشروق" صبيحة الجمعة من باريس، أن محمد الميلي رحل "حزينا" بسبب إهماله وعد الاهتمام بحالته الصحية. وأشارت إلى أن مراسيم دفن المرحوم ستتم ظهيرة اليوم بمقبرة سيدي يحيى بالعاصمة.
رحل الوزير والسفير الأسبق محمد الميلي بعد معاناة مع المرض.. تعازينا الخالصة وعظم الله أجركم في هذا المصاب. نعم لقد فارقنا "سي محمد" فجر "الجمعة" ورحل إلى جوار ربه بعد معاناة طويلة مع المرض، الذي ألزمه الفراش في السنوات الأخيرة، وأحب أن أصحح ما ورد في نشرة الأخبار بخصوص أن "سي" محمد –رحمه الله- كان يعاني من مرض عضال، وأقول انه لم يكن كذلك، كما قالوا انه كان مصابا بمرض "الزهايمر"، لكن كل هذا كذب، لأنه رحل في كامل قواه العقلية، وكان واعيا بكل شيء لدرجة أن الطبيب الذي كان يعالجه كان دائما يقول لنا، "مخو خير من مخي".
يفارقك "سي" محمد بعد أكثر من نصف قرن، قضيته بحلوه ومره إلى جانبه؟ ما عساني أقول، رحمة الله عليه، كان أبي وأمي وكل شيء في حياتي، خاصة بعد وفاة والداي، رحمة الله عليه، تغمده الله برحمته الواسعة وأبدله هذه الدنيا بجنة الخلد إن شاء الله.
أين ومتى ستتم عملية الدفن؟ - سيدفن اليوم بمقبرة "سيدي يحيى"، فقد أوصى أن يدفن إلى جوار والدته في الجزائر رغم رفض أبنائه أن يدفن في أرض الوطن، حيث كانوا يفضلون دفنه في مقبرة المسلمين هنا في فرنسا.
ما خلفية هذا الموقف؟ أبناؤه مستاءون كثيرا من إهمال السلطات له طيلة سنوات مرضه ورفضها منحه الامتيازات التي يتمتع بها رجال الدولة والمجاهدين من أمثاله.
هذا صحيح، فكل الوزراء وشخصيات الدولة وحتى عائلاتهم يحظون بالرعاية الصحية داخل الوطن وخارجه، لماذا في رأيك لم يتحصل الراحل على هذا الحق؟ "سي" محمد صعد إلى الجبل وهو شاب لم يكمل سن العشرين لمحاربة الاستعمار الفرنسي، وتفرغ بعد الاستقلال لتكوين الإطارات في مجال الإعلام، وخدم البلد بكل إخلاص وتفان، ولكنهم كافأوه ب"نكران الجميل". هكذا فعلوا مع العلامة الشيخ البشير الإبراهيمي، وهو نفس المصير الذي لقيه الشاذلي المكي وغيرهم، وهذا مصير كل الذين أخلصوا في خدمة هذا البلد، كنت دائما أقول له "إنك معاقب بسببي".
كيف كانت حالته النفسية قبيل وفاته؟ كان جد حزين على وضعه، لم يكن يسأل عنه أحد، وهو الذي أوصل الكثير من وزراء الدولة الجزائرية إلى تلك المناصب وكون الإطارات، ثم يكافأ بالنسيان، وكان يسأل في كل مرة "لماذا لم توفر لي الرعاية الصحية على غرار بقية المسؤولين في الدولة"؟ لقد رحل "سي" محمد وهو "غاضب" من بلده.
بماذا أوصاك قبل وفاته؟ عندما تدهورت حالته الصحية وأحس بقرب أجله طلب مني ومن أبنائه في حال وافته المنية أن ندفنه في الجزائر إلى جوار المرحومة أمه رغم أن أبناءه كانوا يرفضون ذلك، كما ألح علي وأوصاني بالعودة للعيش في الجزائر بعد وفاته، وقال لي بالحرف "لا تقيمي خارج الجزائر".
ما هي أكثر القضايا التي كان يتحدث عنها المرحوم؟ كان يتحدث بأمل كبير ويؤمن بنهضة الجزائر وتقدمها إلى مصاف كبار الدول رغم أنني كنت أجيبه في كل مرة وأقول له "الوضع لا ينبئ بذلك"، وكان لا يحب أن يقول له أحد عكس ذلك، لأنه كان يحب بلده إلى درجة التقديس، وجد متفائل بتحسن الأوضاع فيها وخاصة عدم وقوعها في الأحداث التي عاشتها العديد من الدول العربية في الآونة الأخيرة، إلى جانب إيمانه الكبير بالقضية الفلسطينية وكان يردد دائما "أتمنى ألا تذوب وتنصهر مواقف الجزائر في بقية المواقف العربية المخزية اجاه القضية الفلسطينية وأن لا تتأخر دائما في نصرتها"، لقد كان "سي" محمد يطمح في أن يمد الله في عمره حتى يكمل ما كتبه عن الجزائر والقضية الفلسطينية، ولكن الموت كان أسبق، فرحمة الله عليه.
عبد الرزاق قسوم رئيس جمعية العلماء المسلمين عالم ابن عالم .. سليل أسرة إصلاحية "مهما قلنا في فقيد الجزائر محمد الميلي فإننا لا نستطيع أن نفيه حقه، فهو عالم ابن عالم، سليل أسرة إصلاحية، فهو نجل الشيخ مبارك الميلي انتسب إلى المدرسة الإصلاحية متعلما ومعلما. مثقف متعدد الاختصاصات والميادين سواء كان في ميدان التعليم البيداغوجي العلمي أو الدبلوماسي أو الميدان الإعلامي الذي كان له فيه إسهامات ومساهمات اتسمت كتاباته بالتجديد والمساءلة بالنسبة لروح عصره. معروف انه رجل نقاش، حيث أثارت بعض مقالاته انتقادات، خاصة من طرف الإصلاحيين الذين اعتبروا آراءه غير مستساغة وفي غير محلها مثل المقال الذي كتبه في المجاهد "هل حان وقت إعادة النظر في تراث ابن باديس"، واعتبر هذا المقال غير مقبول من طرف نجل مبارك الميلي مصلح العقول والقلوب في الجزائر وصاحب مرجعية راسخة. قد نتفق وقد نختلف في بعض آراء الراحل، لكننا نعتبر رحيله خسارة للجزائر ويعز علينا أن يموت خارج وطنه وبعيدا عن أهله ونعزي أنفسنا جمعية العلماء ونعزي الجزائر التي فقدت أحد رجالها المخلصين".
الرئيس عبد العزيز بوتفليقة: "الفقيد محمد الميلي أسهم في بناء الدولة الجزائرية الحديثة" بعث رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة برقية تعزية إلى أفراد أسرة المرحوم محمد الميلي براهيمي، الذي وافته المنية أمس الأول الخميس عن عمر ناهز 87 سنة إثر مرض عضال، أكد فيها أن الفقيد أسهم في بناء الدولة الجزائرية الحديثة بتوليه العديد من المسؤوليات في داخل الوطن وخارجه. وجاء في التعزية: "بلغني ببالغ الأسى والأسف نبأ انتقال المغفور له الصديق المناضل والكاتب القدير محمد الميلي براهيمي إلى رحمة الله وعفوه بعد مرض عضال أقعده الفراش ردحا من الزمن، حرمه من الكتابة وأبعده عن مجالات الأدب والسياسية وأفتقده رفاقه في مجتمعاتهم التي كان يصول فيها ويجول وانتظروا أن يعود إليهم سالما معافى ليسأنف معهم النضال، كما كان بلسانه الذرب وقلمه السيال ولكن الله شاء غير ما شاءوا فقضى أن يولي الفقيد وجهه شطر رحابه، ملبيا نداءه راضيا مرضيا تسبقه حسناته وتزفه دعوات كل من عرفوه". وتابع الرئيس بوتفليقة قائلا: "لقد كان الفقيد جم الأدب عالي الخلق حلو الشمائل لطيف المعشر ذا علم غزير وباع طويل في التأليف والكتابة ولا غرو ذلك فهو سليل أسرة علمية ترعرع في حضن والده العلامة المؤرخ الكبير الشيخ مبارك الميلي رفيق درب العلامة المصلح الكبير عبد الحميد بن باديس عليهما رحمة الله وتشرب منه الخلق الحميد والنزاهة الوطنية الصرفة". وأضاف أن الراحل "بدأ نضاله يافعا ولما اندلعت ثورة التحرير المظفرة وسطع شعاع أول نوفمبر التحق بإخوانه المجاهدين مؤديا دوره النبيل بكل بسالة وإخلاص، ينافح بالكلمة والقلم، وبنفس الروح التي تحلى بها على مدى حياته، أسهم في بناء الدولة الحديثة بتوليه العديد من المسؤوليات في داخل الوطن وخارجه، وكان على حمل المسؤوليات قادرا، وفي أداء المهمات نشيطا، إلى أن مرض وخبا في أفقه الأمل وأدركه الأجل".
عبد القادر بن صالح وعز الدين ميهوبي " الميلي.. ابن مخلص لمدرسة مشهود لها بتبجيل العلم والعلماء" أكد رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح، أن الفقيد محمد الميلي الذي وافته المنية يوم الخميس بباريس كان ابنا مخلصا لمدرسة مشهود لها بتبجيل العلم والعلماء. وأوضح رئيس مجلس الأمة في برقية تعزية بعثها إلى عائلة الفقيد محمد الميلي أن انتقل الراحل إلى جوار ربه "يترك على إثره بمساره الحافل المشرف في هذه الحياة من الزاد والإرث ما يؤنس النفوس المفجوعة تأسيا بآل الميلي الذين تأصل فيهم العطاء الوطني وتوارثوه، إذ كان فقيدنا ابنا مخلصا لمدرسة مشهود لها بتبجيل العلم والعلماء". ومن جهته اعتبر وزير الثقافة عز الدين ميهوبي، الذي ذكر بالمسؤوليات التي تقلدها الفقيد محمد الميلي إبان الثورة وغداة الإستقلال، أن "ما تركه الفقيد من رصيد فكري وثقافي متنوع يجعلنا نقف أمام هذه الشخصية ذات المسار الحافل بكثير من التقدير والعرفان".
الناشر مهند الجهماني الميلي ترك لي مكتبته.. لم يحقد على أصدقائه الذين تجاهلوه عرفت محمد الميلي في 2005 وترك لي جزءا من مكتبته عندما ذهب إلى فرنسا وهي مكتبة متنوعة ومتعددة الاختصاصات، كان رجلا كثير القراءة ومهتما بمختلف المجالات. عرفته شخصا متواضعا مستمعا جيدا لمحدثيه وقليلا ما يتحدث وعندما يتكلم يتحدث في الوقت المناسب. عرفته شخصا طيبا ومتواضعا ويحب وطنه، همّه كان عربيا، حيث كانت القضايا العربية تستقطب اهتمامه أثناء النقاش. لم يحقد على أصدقائه ورفقائه الذين تجاهلوه، بل كان يعاتب بود من تنكر له في أيامه الأخيرة. عاش عزلة عن محيطه ورغم ما تعرض له طبعا لأسباب أجهلها، لكنه بقي موضوعيا في عتابه لمن حوله، فقد كان رجل دولة له الكثير من الإسهامات في مختلف المجالات من الدبلوماسية إلى الفكر والإعلام. رحم الله فقيد الجزائر وأسكنه فسيح الجنان.