على شاطئ سيبوس، ما يزال منظر الأمواج المتكسّرة على الصخور الاصطناعية والرمال جميلا، رغم تشوُّه المحيط، وعلى ذات الشاطئ، ما تزال الأحلام تتكسّر لتتجدد جيلا بعد آخر، بحثا عن قارب نجاة نحو الضفة الأخرى، والشاطئ الرملي المحاذي لميناء المدينة أصبح اليوم الشاهد الصامت على رحلات نحو الموت، ورماله وحدها عٓدّت الخطى الأخيرة لشباب غادروه نحو حتفهم، دون أن يودّعوا أحدا، وحْده الشاطئ المطوّق بأنبوب الأمونياك والمزروع بالزجاج الأخضر، ودّعهم واحتضن آخر ضِحكاتهم. ليست الهجرة السرية عبر القوارب أو "الحرقة" في قاموسنا المحلي...مجرد أرقام لمن غادروا، فليس من رأى كمن سمع، بل هي بالنسبة لمن يعايش واقعها وتبعاتها، حياة من الآلام والهواجس التي لا تنتهي خوفا من فقدان الولد أو الأخ أو الزوج أو الأب.. وفي حي سيبوس، أو "جوانو فيل"، آثار الظاهرة بادية للعيان وقصصها تناديك أينما اتجهت، الحي العريق شهد نزيفا كبيرا وسط أبنائه.
من هنا أبحر الطالب والمهندس والمحاسب يقول السيد "محمود جنان" عضو الرابطة الوطنية للدفاع عن حقوق الإنسان، الذي اصطحبنا في جولات متكرّرة إلى عائلات الحرّاقة المفقودين، فجماعات الشباب التي كنت تصادفها في كل الزوايا تقلّصت، وتلك التي ما زالت تلتئم هنا وهناك، غير بعيد عن الشاطئ، لا حديث لها إلا عن آخر الواصلين إلى إيطاليا أو المتصلين من أي بلد أوروبي، لتغذيّ تلك الأنباء، أوهام من يفكر في خوض المغامرة كالنار في الهشيم، ويصبح من الصعب، بل من المستحيل إقناع عدد كبير من المراهقين خاصة، بطرد الأفكار الوردية عن الهجرة السرية نحو أوروبا من عقولهم.. رغم أن المعلومات التي جمعناها أكدت مغادرة أشخاص من كل الفئات، فمن هذا الشاطئ غادر طبيب ومهندس ومحاسب وطلبة جامعيون وطلبة بكالوريا.. وفي هذا السياق تقول أستاذة بمتوسطة حي سيبوس، أنها ذهلت عندما اكتشفت حجم التأثر والهوس بفكرة الهجرة نحو أوروبا مهما كلّف الثمن وسط تلاميذ قسمها الذكور، الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و16 سنة، فشعارات الهجرة والتمرد والمافيا الإيطالية وغيرها من الرموز والأيقونات الغريبة، هي ما يملأ دفاترهم، وليست الدروس..، حالة أحدهم اضطرتها إلى استدعاء ولي أمره كي تعرف أسباب ذلك الهوس .. تقول الأستاذة أنها توقعت أن يكون التلميذ منحدرا من عائلة فقيرة أو لا يلقى الاهتمام الكافي، لكنها فوجئت بأب مهتم يسيطر عليه الخوف من فقدان ابنه، الذي قد يركب البحر في غفلة من العائلة.. يقول الأب إنّه اشترى لابنه في ذلك الأسبوع بدلة رياضية وحذاء ثمنهما 25 ألف دج، وأنّه يسعى ليوفر له حياة سهلة يركّز فيها على دراسته فقط لكن "الحرڨة" باتت منافسه اللّدود.
"فعلها وتركني وحيدة مع طفلي!" "كان يتحدث عن الهجرة، لكني لم أتصوّر أنه سيفعلها ويغادر ليتركني وحيدة مع طفليّ" بهذه العبارة لخصت إحدى السيدات من الحي معاناتها، فقد غادر زوجها الشاب الثلاثيني منذ بضعة أشهر وتركها وحيدة في مسكنها الفوضوي تواجه الحياة دون معيل، لتكتشف أنه طلّقها قبل أن يغادر،.. أما الخالة شريفة البالغة من العمر 93 عاما، والتي استقبلتنا في منزلها، فما تزال تتأمّل أنّ خلف كل قادم لزيارتها مثلنا، خبر عن ابنها محمد العربي ب. المدعو "كوسكوس"والمفارقة أنه لم يكن مراهقا أو شابا صغيرا عندما حاول الهجرة إلى أوروبا واختفى في عرض البحر، بل كان في بداية عقده الرابع، وله قصة محزنة، فقد هاجر إلى أوروبا في السنوات الأولى لشبابه وتزوّج هنالك بفرنسية وأنجب منها طفلتان، وبعد أن دبّت الخلافات بينهما قرّرا الطلاق ومنحتها المحكمة حق الحضانة لأنه كان عاطلا عن العمل، ورُحّل إلى الجزائر، غير أنّ قلبه ظل معلقا بابنتيه، خاصة بعد أن بلغته أخبار بأنهما تسألان عنه، فنصحه صديق مغربي "بالحرڨة"، فركب البحر ذات ليلة خريفية (18/10/ 2008)، ولكن القارب فقُد بمن فيه إلى يومنا هذا، كما فُقد 12 قاربا خرجت من هذا الشاطئ حسب إحصاءات ناشطين في المجتمع المدني. ومنذ 2007، فُقد عديد شباب الحي، قدّرتهم ذات المصادر ب 20 شخصا أو أكثر في غياب إحصاء رسمي، وبعضهم جنحت قواربه إلى الشواطئ التونسية وراجت معلومات عن اقتيادهم إلى سجون سرية هناك، باءت كل المحاولات لكشف حقيقتها من طرف الأولياء بالفشل. في هذا الحي توفيت عديد الأمهات حزنا على أبنائهن الحرّاقة، أشهرهن أم فقدت عام 2007، اثنين من أبنائها دفعة واحدة، فظلت يوميا تجلس على رمال الشاطئ تبكيهما حتى فارقت الحياة، على غرار السيدة صابوني التي شكل زوجها مع السيد بلعابد كمال جمعية الحراڨة المفقودين.
منظّم رحلات: العمل مع شبكات "الحرڨة" يوازي العمل مع الإرهاب لم يكن التواصل مع منظم سابق لرحلات الهجرة السرية بالأمر السهل، ولا إقناعه بالحديث عن تجربته في هذا العمل غير الشرعي الخطير، ولكن بعد موعدين فشلا، نجح الموعد الثالث والتقينا بالسيد "ع" رفقة دليلنا في حي سيبوس. يقول محدثنا إنه مارس هذا العمل لبضع سنوات منذ العام 2006، لظروف قاهرة، لكنه تخلى عنه اليوم بكل قناعة، لأنه كما يقول تأكد أن لا فرق بين تنظيم رحلات الهجرة السرية عبر البحر، وبين من يمارسون الإرهاب أو يدعمونه، لأن الأيام كشفت له خبايا عديدة، فبعد أن كانت الظاهرة محدودة ومقتصرة على أبناء السواحل، انتشرت لتستقطب فئات عديدة، واليوم أنت لا تعرف من يمتطي القارب يضيف محدثنا، هنالك أشخاص من كل المناطق ومن الدول المجاورة..، من تونس والمغرب، مالي وسوريا..، كما يوجد فارون من العدالة، بعض المهربين أصبحوا يفضلون التعامل مع السوريين مقابل مبالغ تتراوح بين 14 و15 مليون سنتيم انطلاقا من شواطئ الشط تحديدا. وعن هوية منظمي الرحلات، وعن إذا ما كانت كلها يقف وراءها "محترفون" أم أنّ مجموعات الشباب تخطط فيما بينها للهجرة، وتنفذها في سرية تامة مثلما روى لنا بعضهم في سيبوس وسيدي سالم، قال محدثنا إن كلا الأمرين يحدث، يوجد أشخاص محترفون يشكلون بالفعل شبكات، يجهّزون القوارب بالمحرّكات ومحددات المسار "جي بي أس" ويصطادون الزبائن، فيقال إنّ هذا القارب لفلان وتسمىّ الرحلة على اسمه، ويوجد من يتفقون فيما بينهم ويدبّرون كل شيء، وللأسف أصبح بعض من يُقبض عليهم يتهمون أشخاصا يشتغلون في مجال البحر للانتقام، فأحد أبناء الحي اتهم بالضلوع في تنظيم هجرة سرية لأنه أصلح قاربا لمجموعة تم إيقافها، وهو في السجن ينتظر المحاكمة.
منظمو الرحلات يعودون على حساب الجوية الجزائرية! عن هوية من يقودون القوارب حتى سردينيا، قال محدثنا إنّ قائد الرحلة عادة ما يكون شخصا متمرّسا على البحر يجيد استخدام جهاز تحديد المسار، يقبض ثمن رحلته مسبقا والذي يكون بنفس تسعيرة الرحلة وإذا وصل القارب إلى وجهته بسلام، يتسلّل إلى إحدى الدول الأوروبية، وغالبا ما تكون فرنسا، يتعمد أن تقبض عليه الشرطة فيُرحّل إلى الجزائر عبر الطائرة، ويضمن بذلك طريق عودته لممارسة نشاطه، وهنالك من كرّر هذا الفعل عدة مرّات، ومن اختار البقاء في أوروبا. ويرى محدثنا الذي يقول إنه يتحدث من منطلق تجربته، أنّه ينبغي أن يكون تنسيق أمني للتصدي للظاهرة، التي سبّب استمرارها وازدهارها انتشار الوسائل المساعدة عليها في السوق السوداء، وأهمها محركات القوارب التي تباع مقابل 50 مليون سنتيم، وأجهزة تحديد المسار التي تباع بمبالغ تتراوح ما بين 3 و4 ملايين سنتيم، وعديد المحرّكات يشتريها مقتنصو البيع بالمزاد العلني الذي تقيمه الجمارك، إضافة إلى التهريب، فالمحرّكات التي تُحجز تباع مجددا.. ناهيك عن الطرق الملتوية لإدخالها وبيعها..
أوضاع اجتماعية صعبة وتهميش قاتل.. يبدو حي سيبوس لزائره اليوم، كمنطقة منكوبة مطوّقة بالمنشآت الصناعية ومخلّفات الإنشاءات، ما أكسبه بيئة رمادية منفّرة مسحت ماضيه الجميل، فمدخله الشرقي تحوّل إلى مكب للأتربة والردوم، والشاطئ شمالا يطوّقه أنبوب الأمونياك العابر نحو مؤسسة "فرتيال"، أما طرقاته الداخلية فمهترئة وغارقة في تسرّبات المياه. ولذلك، فإنّ كبار السكان، وبعضهم ناشطون في المجتمع المدني، يرون أنّ تفاقم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، أدى إلى سيطرة الهجرة على عقول الشباب، والمشكلة تبدأ من ضيق السكنات وقدمها، والفراغ القاتل الذي تعانيه الفئات العمرية الصغيرة بين 14 و20 سنة بسبب التسرّب المدرسي الذي يدفع بهم إلى الشارع، فلا يجدون شيئا يفعلوه غير التفكير في "الحرقة" فلا عمل ولا مال، ولا نشاطات رياضية أو ترفيهية أو تكوينية، ولا مساحات خضراء أو فضاءات للعب، الإهمال قضى على كل شيء. وفي هذا الصدد يقول السيد "عمار ج"، إنّ كل من يتحدثون في الاستوديوهات عن ظاهرة "الحرڨة" لا يعرفون شيئا عن الواقع الحقيقي، يوجد فقر وبطالة، وأيضا تجاهل لتدهور الإطار المعيشي وبؤسه، متسائلا أين هي الملاعب الرياضية التي وعدوا بها؟ ومشروع الملعب الجواري مجمّد منذ العام 2004، لماذا ترفض السلطات المحلية ترميم قاعة الفنون القتالية، حتى رمّمها الأولياء بأنفسهم كي يلجأ أبناؤهم إليها في أوقات الفراغ؟... وفي هذا السياق تذكرت ما قاله لي أحد الشباب من محدودي المستوى عندما سألته عن جدوى هجرته إلى إيطاليا وهو لا يتقن فعل شيء، "إن كنت أتكئ إلى الجدار هنا وسط هذا "القِفار" فخير لي أن أتكئ إلى الجدار في شوارع إيطاليا الجميلة.."! وقد تزامن إعدادنا لهذا الريبورتاج مع بدء أشغال تهيئة جزء من كورنيش الحي ليكون متنزها يمر عبره الطريق الاجتنابي الذي عاينه وزير النقل مؤخرا، الأمر الذي استحسنه السكان.
"مَحْيُو" .. طفل يتيم يجمع الخردة ليؤمِّن ثمن "الحرڨة" اسمه رؤوف، ورفقاء الحي وسكانه تعوّدوا مناداته "مٓحْيُو"، نظراته البريئة اليائسة تخالها سهاما مبعثرة والكلمات تخرج من بين شفتيه متقطعة، لكنها مؤثرة،..كنت أبحث عن شهود عيان أو ناجين من قوارب الموت، غير أنّني عثرت على مشروع مهاجر سري صغير، وبطل قصة إنسانية معقدة..، هو مراهق أو طفل في نظر القانون، لكنه راشد وبالغ في حكم مجتمع لم يوفّر له أدنى متطلبات طفولته. على الطرف الغربي لحي سيبوس، قريبا من إحدى الورشات، وتحت أعمدة الضغط العالي للكهرباء، وسط الأوحال والبرد، يقضي "مٓحْيُو"، 14 عاما، ورفيقه "حبيب"، 17عاما، ساعات يومهما في تقطيع وتجميع حديد الخردة لبيعه لأحد تجار النفايات الحديدية مقابل بعض الدنانير للكيلوغرام، ورغم فقره وحاجته وهو اليتيم "مجهول النسب"، فإنه لا يزاول هذا العمل ليصرف على نفسه، بل ليدخر ثمن هجرة سرية، مؤكدا أنه يقتصد جدا في مصروفه فلا ينفق أكثر من 200 دج في اليوم. "مع حلول الصيف المقبل لن تجدين أحدا هنا..، الكل راح يٓحْرڨ" يقول مٓحْيُو، لا مستقبل هنا.. أما هو فيخطط لجمع 10 ملايين سنتيم لتأمين ثمن زاوية في قارب خشبي يقله نحو سردينيا، كما اتفق مع أحد المهرّبين.. وحسب اعتقاده فإنّ القُصر من أمثاله سيلقون معاملة حسنة في مراكز الإيواء، وستقدّم لهم إيطاليا أو غيرها الرعاية والمساعدة على الاندماج في المجتمع.. أقاطع "محيو" كي لا يسرح بعيدا في حلمه الأوروبي وأسأله عن "حراڨة" عائدين.. فيرد صديقه نعم هناك من عادوا مثل "نجمو"، لقد عاد لأنه لم يحسن التصرّف، و تغيّر سلوكه وأصبح يتعاطى الخمر والمهدئات.. ننخرط في الحوار أكثر معهما عن صعوبة الهجرة ومخاطرها، كالموت غرقا أو القتل ومطاردة الشرطة، يتراجع "مٓحْيُو" عن أحلامه الأوروبية، ويقول إنّه لم يكن ليفكر في الهجرة لو لم يُرفض طلبه لدخول مركز التكوين المهني، كما لم يستطع الحصول على شهادة ميلاده، لأنه لا يعرف والده، فيما والدته تخلّت عنه وتعيش بعيدا بعدما أعادت بناء حياتها، يتساءل "محيو" باستغراب أنا أريد تعلم أيّ حرفة تساعدني على العيش، لماذا يطلبون مني مستوى دراسيا معينا؟ لو كانت حياتي أفضل لما طُردت من المدرسة في الرابعة ابتدائي،..أريد فقط فرصة كي أتعلم حرفة، وأبقى بالقرب من جدتي المريضة لأرعاها كما رعتني وأنا طفل تم التخلي عنه. تركنا "محيو" وحبيب اليتيم الأم، يواصلان فرز قضبان الحديد، ويبدو أنّ كلامنا معهما حول مخاطر مغامرة "الحرڨة" والمجهول الذي ينتظرهما في إيطاليا قد أثّر فيهما، على أمل أن تلفت السلطات الوصية لأمثالهما، وتقدّم لهما يد العون والمساعدة لشق طريقهما في الحياة عملا بالمثل الصيني القائل "لا تعطني سمكة ولكن علّمني كيف أصطاد".