هاجمت القوات الإسرائيلية مع كلمات الأذان الأولى لفجر الاثنين الماضي، قافلة الحرية المسالمة داخل المياه الدولية وهي في طريقها لتسليم مساعدات إنسانية إلى سكان غزة المحاصرة. ولم يكتف الكيان الصهيوني بقتل عشرات الناشطين على باخرة "مرمرة" الشهيدة، بل زجّ بأكثر من 600 منهم في غياهب سجونه انتظارا لمحاكمة بعضهم. تصرف كهذا يطرح أكثر من سؤال عن سرّ جرأة العدو وتحدّيه كل الأعراف الدولية. ويدعو الإنسانية والعرب والمسلمين وكل أحرار العالم إلى مقاومة من طراز جديد تستوعب وتدير محددات تلك الجرأة التي لم تشهد البشرية مثلها إلا في حالة واحدة هي حالة "الصهيونية الجديدة". فماذا يعني أن تهاجم إسرائيل قافلة مسالمة؟ وما المطلوب من أحرار العالم فعله كي تتحول الجريمة إلى أداة مقاومة جديدة؟ العواطف الميّتة كتب الكاتب والصحافي الفرنسي النشيط "ميشال كولون" مقالة ممتازة ساعات قليلة بعد الإعلان عن الهجوم الإسرائيلي على قافلة الحرية قال فيها: "ستتوقف إسرائيل عندما نوقفها"، ومعنى ذلك أن لا أحد منّا يقف حاليا في وجه الهمجية الصهيونية بالشكل المناسب وبالتالي يجب أن ننتظر أحداثا تفوق ما حدث لقافلة الحرية بكثير. وأكاد أجزم أن الكيان الصهيوني يتمتع بضمانات لا تخطر على بال من أغلب الأطراف المشاركة في العملية السياسية التي تستهدف تسوية للقضية الفلسطينية تخدم أمن إسرائيل الدائم وقدرتها على التوسع ضمن النسيجين العربي والإسلامي. ويقع على رأس قائمة ضامني الفعل الإسرائيلي الراعي الأول لمحادثات السلام "أمريكا" ثم الداعم دون شروط للفعل العسكري الإسرائيلي "بريطانيا" وأخيرا بعض أطراف "النظام الرسمي العربي" والتي مازالت تلقي بخيار المقاومة جانبا وتفضل عنها مبادرات التطبيع واتفاقيات السلام. وتأتي الشعوب في مرتبة أخيرة عندما تجهل بأنها تشكل سوقا رائجة لكثير من السلع والخدمات الإسرائيلية يتعدى حجمها 5 ملايير دولار سنويا. ومعلوم أن أية اتفاقية سلام تلزم جميع الأطراف باحترام بنود الاتفاقية مما يشكل قيدا ثنائيا عليها وغالبا ما يكون هذا القيد على حساب خيارات أخرى قد تكون أكثر جدوى في مواجهة الاحتلال. ومادام جميع المتدخلين المفترضين في المشهد الفلسطيني يخضعون لأجندات مسبقة، فإن الحل الوحيد أمامهم هو إعادة ضبط أجنداتهم على وقع الأحداث الأخيرة ومنها حدث الاثنين الماضي وهذا حل يصعب التأكد من تحقيقه بشكل كامل في الوقت الراهن وربما تحققت خطوات في هذا الاتجاه، منها الخطوة التي أعلنت عنها القاهرة، الثلاثاء الماضي، أي إعادة فتح معبر رفح لمرور أهل غزة. أما الشعوب فهي فعلا لم تستثمر في كل الأدوات التي بين يديها واكتفت بالبيانات الصامتة والعواطف الميتة التي لا تتمتع بالآليات التقنية للتنفيذ مثلها مثل المشاعر الرومانسية التي تهز القلب ولا تفعل شيئا، وقديما قال قائلهم: سمعت جعجعة ولم ألمح طحينا. العرب والمسلمون والأخطاء القاتلة انطلقت قافلة الحرية من تركيا ودفعت أنقرة الثمن غاليا، وقد يكون من المناسب الآن تقييم التجربة: هل كان من اللازم أن يقع ما وقع ؟ وهل المبادرة التركية كانت مدروسة أم أنها واحد من الأخطاء القاتلة التي تكررت في منظومة المقاومة السلمية؟ ربما كان من غير اللائق طرح هذا السؤال حال التفكير في المبادرة، لأن ذلك كان يشير إلى نوع من تثبيط العزائم وربما يكون من المبكر الإجابة الآن وتركيا تحصي شهداءها، ولكن أحداثا دامية سابقة كشفت لنا عن نقائص في منظوماتنا الدفاعية والأمنية، بدءاً من مجزرة دير ياسين إلى مجزرة صبرا وشاتيلا إلى مجزرة غزة الكبرى إلى اغتيال الشيخ ياسين والرنتيسي وباقي قادة حماس، إلى اغتيال أسد المقاومة المسلحة عماد مغنية وآخر الأمر اغتيال المبحوح في عاصمة الأبراج دبي. وفي كل مرة تتنافس البواكي على البكاء وتتبارى الهيئات إلى التنديد وتتفنّن العربية في صياغة البيانات وليس بعد ذلك شيء. وهاهي اليوم القصة تتكرر ويسقط عشرات الشهداء فوق قافلة الحرية وتقود إسرائيل كوادر الأمة إلى سجن "بير السبع" دون أن يثمر الأداء الدبلوماسي ضغطا حقيقيا أو يقدم مجلس الأمن حلاًّ راقياً أو تتبدل الآلة الأمريكية في دعم إسرائيل. لقد حان الوقت ليعلم العرب والمسلمون ما يلي: أول داعم لإسرائيل هي أغلب الدول العربية وبعض الدول الإسلامية من خلال المنظومتين العسكرية والتجارية. فحجم المشتريات العسكرية العربية حسب دراسات جامعة الدول العربية يبلغ في المتوسط 40 مليار دولار سنويا وأرباح معظم الصفقات مع أمريكا وبريطانيا وفرنسا تصب في صندوق تهويد القدس الذي تصل ميزانيته السنوية إلى 1.2 مليار دولار، ثم المساعدات إلى إسرائيل وتطوير منظومة الصواريخ في تل أبيب. وبلغ حجم التبادل التجاري بين الدول العربية والإسلامية من جهة وإسرائيل من جهة ثانية 5 ملايير دولار سنويا العام 2009. ويشير مدير معهد التصدير في إسرائيل "دافيد أرتزي" إلى أن المبادلات التجارية لإسرائيل مع بقية العالم يشمل عددا كبيرا من الدول العربية والإسلامية، سواء بطريق مباشر أو غير مباشر. وأن رجال أعمال إسرائيليين يملكون مصانع في عدة دول عربية. المدافع تصمت والأرقام تتحدث وبالفعل، بلغت المبادلات التجارية بين إسرائيل ودولة مصر مثلا العام 2008 حجما قدره 292 مليون دولار وبزيادة قدرها 18 بالمائة عن العام 2007، بينما لم تتجاوز التجارة البينية بين الجزائر وليبيا على سبيل المثال 40 مليون دولار العام 2009. مما يجعل من مصر ثالث دولة تشارك إسرائيل تجاريا من حيث الترتيب. ويتميز الميزان التجاري بين إسرائيل ومصر بفائض لصالح الاقتصاد الإسرائيلي بحجم 28 مليون دولار العام 2008، حيث صدرت إسرائيل إلى مصر 160 مليون دولار ما يعادل 3 بالمائة من إجمالي الصادرات الإسرائيلية، واستوردت منها ما حجمه 132 مليون دولار. وتساهم في دعم التجارة البينية بين إسرائيل ومصر 575 شركة منها 300 شركة مصرية. وتستورد مصر 200 منتوج من إسرائيل بواسطة عدد من المصدرين الإسرائيليين عددهم 321 مصدر يعملون على الساحة المصرية. وتصدر إسرائيل إلى مصر المنتوجات الزراعية والأسمدة والمواد الطبية والأجهزة الصناعية في مقابل النفط والغاز والسكر والمنسوجات. وتحتل العراق موقعا متقدما في التجارة الخارجية لإسرائيل بنسبة 43 بالمائة من إجمالي المبادلات الإسرائيلية العربية. وتستورد الأردن من إسرائيل سنويا سلعا بقيمة 60 مليون دولار بواسطة 1800 مصدر مما يجعلها تحتل الرتبة الثانية في المبادلات الإسرائيلية العربية. أما بقية الدول العربية والإسلامية فتمارس الشراكة التجارية مع إسرائيل من بوابة الشركات الأجنبية ومكاتب الاستثمار المنتشرة في الوطن العربي أو عن طريق إعادة التصدير والاستيراد من دول أخرى أو بالتحايل على شهادات المنشأ. وخلاصة المبادلات التجارية العربية الإسرائيلية العام 2008 حسب دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية تفيد مايلي: حجم الصادرات الإسرائيلية إلى 16 دولة عربية وإسلامية:2.1 مليار دولار. حجم الواردات الإسرائيلية من 9 دول عربية وإسلامية: 3.24 مليار دولار. وتشير بيانات الدائرة الإحصائية للأشهر العشرة الأولى من 2009 إلى ما يلي: حجم الصادرات الإسرائيلية من 6 دول عربية وإسلامية: 1.18 مليار دولار. حجم الواردات الإسرائيلية من نفس الدول الأخيرة: 1.36 مليار دولار. وهكذا، تنضم التجارة إلى باقي الأدوات التي مازلنا نوفرها كفرصة أخرى للعدو إلى جانب باقي الأدوات مثل فرقة الصف الفلسطيني، إمدادات النفط إلى أمريكا، صفقات التسلح العربي، الارتباط بالدولار كعملة أساسية للاحتياطي من النقد الأجنبي، والأنظمة ناقصة الديمقراطية الجاثمة على صدور الشعوب. من قال إذن أن إسرائيل ستسقط غدا؟ ولكنها حتما ستسقط في اللحظة التاريخية التي نحاول نحن العرب والمسلمون أن نسقطها فعلا .