كنت أصب كأسا من الشاي مستمتعا بطعمه المغربي اللذيذ في فندق بيتري بمدينة الرباط، وكانت رائحة النعناع تتلوى في الهواء مع حبيبات البخار الذي كان يتصاعد في ذلك الصباح من براد فضي في صينية براقة. * كانوا كما تخيلتهم يدورون داخل السجون كأشباح الصيف، تتبعهم عيون الحراس عند كل زاوية ولا يزال محامون وحقوقيون يطالبون بإطلاق سراح المتهمين في تفجيرات الدارالبيضاء الدامية، مشككين في هذا الملف الذي يعتبره البعض ملفا أمنيا من أوله إلى آخره، كما يرى محامي الجماعات المسلحة الأستاذ توفيق مساعد عضو حزب العدالة والتنمية، وقد كرر الأستاذ توفيق وهو عضو منظمة العفو الدولية، كرر القول بأن الأمر في المغرب يتعلق بما يسمى بصناعة الرعب، وتوظيف السلفية الجهادية باستمرار من أجل حل حزب العدالة والتنمية المغربي، الذي كان قاب قوسن أو أدنى من ذلك كما في رواية هذا المحامي. كنت قد وصلت مطار الدارالبيضاء زوالا، وكان أول من لقيت سعيد العامل في مكتب الجزيرة في الرباط (أو ما بقي منه)، سألته عن حاله وعن العمل، فأجاب باقتضاب واختصار، كان ودودا وطيبا ولبقا، وكان ميالا إلى الاختصار في الكلام والاختزال في التعبير كلما سألته عن أمر ما،(أو لم يقل المرحوم الدكتور عابد الجابري بأن أهل المغرب العربي عقلانيون بتأثير من المذهب الرشدي)، كان سعيد ما يفتأ يهمز بين الحين والآخر قفل الراديو كمن يفتش عن شيء عزيز، خبر عن الجزائر، وخبر ثان عن عصابة في مراكش، ثم وهو يضحك، كل الأخبار واحدة لا فرق. كنت أصغي إليه ناظرا إلى أشجار الطريق التي كانت تجري سريعا إلى الوراء، وكان الطريق إلى الرباط يكشف عن أماكن ومدن ذات أهمية اقتصادية وسياسية في تاريخ المغرب الحديث، فهذه أحياء الصفيح بالدارالبيضاء وهذه مداخن المحمدية، وهذه الصخيرات، منبت الأحداث والذكريات ومحاولة الانقلاب على الملك الراحل الحسن الثاني، وهذه شواطئ المحيط الأطلسي الجميلة، وقصور الرجال الكبار والأثرياء، والخليجيين والأوروبيين، تذكر سعيد أيامه الأولى حين التحاقه بمكتب الجزيرة، وتقاريره عن الحدود الجزائرية المغربية المغلقة وتهريب الدواء والغذاء والملابس والبنزين، ومنفذ وزوج بغال، أما أنا فتذكرت الزميل عبد السلام رزاق وشديد حرصه على نجاح ندوة السلفية الجهادية في المغرب، وقد ظل يشرح لي الوضع في المغرب وخلفيات التفجيرات، وإلقاء القبض على آلاف المغاربة بشكل عشوائي، لقد كان الأمر مباغتا وصعبا على المغرب الذي لم يتحمل صدمة الإرهاب، وبدت البلاد وهي تدخل مرحلة جديدة تعيد طرح السؤال حول ما يسمى ببناء المجتمع الديمقراطي في المغرب وإسلامية الدولة، وكانت الأحكام بحق المتهمين متفاوتة، لكن المفاجأة أنه كان بين المتهمين أئمة مساجد كان يتم إيفادهم إلى الخارج بترخيص من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المغرب، وبدأ طرح الأسئلة عن مسمى السلفيين الجهاديين في المغرب ومن أطلق عليهم هذه التسمية؟ وما علاقة التيار السلفي في المغرب بالتيار الجهادي الانتحاري؟ وتساءل البعض هل كانت السلفية الجهادية أطروحة سياسية وإعلامية تمت صناعتها داخليا بعد تفجيرات الدارالبيضاء؟ وفي الوقت الذي اعتبر فيه القصر الملكي بأن المغرب لا يمكنه أن يتساهل بعد اليوم مع أعداء الديمقراطية وأن بناء المجتمع الديمقراطي الحداثي خيار لا رجعة فيه، وقال البعض إن ذلك هو خطوة في مسلسل مواجهة بين الاختيارات السياسية للدولة والنشطاء الإسلاميين. أما منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني فاعتبرت الأحكام الصادرة في حق المتهمين غير قانونية، ورأت أن المحاكمات شكلية، وأنها كانت كما وصفها البعض(كيدية) نسبة إلى الكيد، هدفها الانخراط في المشروع الأمريكي لمحاربة الإرهاب. أما الدكتور حمزة الكتاني شقيق الشيخ المعتقل الحسن الكتاني والمحكوم عليه بعشرين سنة سجنا، فقال نقلا عن شقيقه بأنه ليست له(أي الشيخ الكتاني) أي علاقة مباشرة بالتفجيرات كما يقول، مما يزيد من أهمية طرح السؤال عن المنفذ الحقيقي للتفجيرات؟ ولم يخف الدكتور حمزة وهو عضو المكتب السياسي لحزب النهضة والفضيلة الإسلامي أن إقدام الحكومة المغربية على ما تسميه هيكلة الحقل الديني وضبط مؤسسات الفتوى يحتاج إلى إعادة نظر، خاصة بعد إغلاق آلاف المساجد في المغرب. كنت أستمع إلى ما يقال عن أحداث الدارالبيضاء، وأقرأ خلفياتها فإذا هي أحداث متشابكة ومتداخلة، والسؤال مرة أخرى هل ملف السلفية الجهادية في المغرب ملف أمني أم صحافي؟ كان صوت المحيط في تلك الليلة هادئا، وكان وجهه مثل صفحة بيضاء ساكنة، وكانت بعض قوارب الصيد والسياح هناك في البعيد ترسل أضواءها إلى الشاطئ فتصافح عيون الناظرين إليها ليلا، الليل والمحيط هادئان ورائعان، وكنت أنظر إلى ما وراء ذلك كله، إلى حيث الأضواء البعيدة، تذكرت كأس الشاي المنعنع في فندق بيتري صباحا، تذكرت العلاقات الجزائرية المغربية، والحدود المغلقة، والصحراء الغربية، وفنون التهريب، وكنت وأنا أقلب الذكريات عن أسفار سابقة إلى المغرب وقد كنت أواجه كجزائري عشرات الأسئلة عن حرائق الجزائر وأزمتها، وعن الانتحاريين وتفجيرات الشوارع والمدن، والجماعات المسلحة، والأحزاب الإسلامية، لكنني هذه المرة كنت أنا من يطرح الأسئلة، عن الجهاديين والسلفيين والسجناء، وعن إسلاميي المغرب وإضرابات السجون، وغلق المساجد، فكرت ربما هكذا تتساوى الشعوب المغلوب على أمرها في الأزمات والمشاكل والهموم والتحديات، وندت مني ابتسامة عابرة قد يكون هذا مدعاة لمصالحة حقيقية بيننا وبين أشقائنا في المغرب، إذا فهم القائمون على رقابنا معنى هذه التحديات، ولم لا؟ فلكل شيء بداية وحكاية .