الحلقة 18 انطلقوا إلى المُضيف مشيًا على الأقدام لقرب منزله، ولما وصلوا وجدوه على الباب في انتظارهم، فرحّب بهم أحرّ الترحيب، وأدخلهم، واتجه بهم إلى قاعة الاستقبال، حيث وجدوا رجلين: أحدهما شيخ طاعن في السن، هو والد المضيف، والثاني كهل في الخمسين من العمر تقريبا، كان من طلبة الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس لم يأخذ عنه العلم - كما ذكر - وإنما أخذ عنه حبّ العلم والعلماء، وحبّ الوطن ورجاله الأوفياء، وحب الحياة وكيف تستغل لصالح الدنيا والآخرة معا ! * تحدثوا طويلا حول العلم والمعرفة، وحول جمعية العلماء، وحزب الشعب، والوضع الراهن، إذ ذاك للاستعمار الفرنسي المقيت، وللحقيقة بعيدا عن كل فخر أو فخفخة أو تزويق يُسجّل إعجاب الحاضرين بالطالب "محمد الصالح الصديق" إلى حد الانبهار. فقد قضوا قرابة ساعتين في محاورات ومناقشات، وكثيرا ما حاول ربُّ البيت أن يعجزه، وهو الذي تنوّر فكره على يد الإمام وواصل عهده بالعلم والمعرفة قراءة ودراسة، وبحثا وتحصيلا، ولكن محالا كان يحاول . ويذكر الطالب أن الرجل سأله عن إعراب هذه الجملة (يهيم وحده) فأعرب وحده حالا، فقال له السائل: ولكن الحال يشترط فيه أن يكون نكرة، وهذا اللفظ معرّف بالإضافة إلى الضمير، قال له الطالب: إنه مؤول بالنكرة، تقديره (منفردًا) فتعجب وقال له: لو كنت مكانك لما تجشمت مشاق السفر إلى جامع الزيتونة، وهذا ما جعل الحاضرين يبالغون في تقدير الطالب وإكرامه، ولكنهم مع ذلك لم يغلطوه في نفسه، بل كان يرى دأبا أنه في بداية الطريق ! حان وقت العشاء فقاموا إلى المائدة وقد وضع عليها كسْكُس، ولحم ضأن، وفواكه، وبالرغم من أن هذا الطعام هو صديق الطالبين الذي توثقت بينه وبينهما عروة المودة من غرة الطفولة، فإنه قد احتجب عنهما أكثر من أسبوع، وصارا أشدّ ما يكونان شوقًا إليه ورغبة في تناوله. وإذا كان للإمام الشيخ محمد البشير الإبراهيمي مقال نشره بالبصائر يصور فيه شوقه إلى العدل في عهد الاستعمار الفرنسي، تحت هذا العنوان: (حدّثونا عن العدل فإنا نسيناه) فإن لسان الطالبين يقول (حدثونا عن الكسكس فإنا نسيناه). كان الطعام شهيا لأمرين اثنين : أولهما : لطيبه ولذاذته . وثانيهما : لجوع الطالبين واشتهائهما هذا النوع من الطعام بالخصوص . ويحضرنا في هذا السياق ما أوصى به أحد الحكماء ابنه قبل موته، إذ قال له : " أوصيك بثلاثة أمور : تزوج كل يوم، واجعل السوق على باب دارك، ولا تأكل إلا العسل " . ومات الوالد الحكيم، دون أن يعرف ابنه حل هذه الألغاز، فاستفسر عنها حكيما آخر . فقال له يعني والدك : مر زوجك أن تتجمل لك وتتعطر كل يوم، فذلك هو زواجك كلّ يوم، واتخذ دابة تقطع بها المسافة بينك وبين السوق، فكأنك بذلك قد قربت السوق وجعلته على باب دارك، ولا تأكل إلا عندما تجوع، فأيّ طعام تأكله حينذاك يكون كالعسل وإن لم يكن شهيا لذيذا! ومن هنا فإن الطعام كان ألذ ما يكون لأنه لذيذ في نفسه ولذيذ بالجوع ! وبعد تناول الطعام رجعوا إلى مقاعدهم لشرب الشاي، وما إن استووا عليها حتى نظر رب البيت إلى الطالب محمد الصالح الصديق والبسمة تتهلل على محياه، وقال له : سمعت عن الشيخ الرزقي وتتبّعت مقالاته في (البصائر) و(الثبات) وعرفت أنه منذ سنوات يدرس بزاوية الشيخ عبد الرحمن اليلولي بجرجرة، وإنه تولّى التدريس بجامع الأزهر لمدّة سبعة عشرة عاما، ولولا مكانته العلمية المتميزة لما سمح له بذلك، فهلا حدثتنا ولو قليلا عن أبرز مميزاته وأنت رغم صغرك قد تتلمذت عليه وكان لك منه محصول فكري وافر ! فتحدث الطالب - في شيء من الزهو للإطراء الذي سمعه - عن مكانة الشرفاوي العلمية حسب مدركاته الفكرية آنذاك وحصر مميزاته في هذه الأمور : القوة الشخصية: فكان الاستعمار الفرنسي يضايقه برقابته، وكان جل أهل قريته يعادونه لتفتحه العلمي، ومحاربته للمألوف المضل من بدع وخرافات وأباطيل وأوهام وكان الطرقيون يحاربونه لأنهم يرون فيه عدوا لدودا، ومنحرفا عن الجادة عنيدا، ومع كل هذا فإنه كان دوما رابط الجأش، رضي الصدر، سمحا طيبا، وكان يَرْثِي لهم ويقول ما معناه : لو كان هؤلاء علماء حقّا لتعاونوا معي على البرّ والتقوى، لأن العلم يملأ القلوب نورا، ويهدي إلى الطريق القويم. وكان رحمه الله من أقدر الناس على تصوير أفكاره وبسطها للناس، وكان صريحا في آرائه وأقواله لا يقول غير ما يعتقد، ولا يستنكف أن يعترف بالخطإ إذا تبين له وجه الصواب ! فراسة الطالب الباديسي ولما أبدى الحاضرون تأثرهم بموت الشيخ الشرفاوي الذي كان شمسا مضيئة بمنطقة القبائل بالخصوص، قال لهم الطالب، ويعظم الحزن والأسى بفقد الجزائر لهذا العالم، وعالمين آخرين في شهر واحد هما الشيخ مبارك الميلي، والشيخ السعيد فضلاء البهلولي فكأنهم تواعدوا على الرحيل في أوقات متقاربة إذ توفى الأول في 24 فبراير 1945 والثاني في 9 فبراير 1945 والثالث في يوم 4 فبراير 1945 رحمهم الله جميعا . وقبل أن ينتثر العقد : شكر الطالب المتحدث صاحب الدار على كرمه وعلى الفرصة الثمينة التي أتاحها للتعرف عليه وعلى والده وصديقهما، وقال صاحب البيت : إذا كان هناك فضل ما، فإنه يعود إلى ذلك الرجل العظيم الإمام ابن باديس، الذي بذر فينا بذور المحبة والأخوة، ونفخ روح الوطنية الصادقة، حتى أصبح كل طالب من طلبته يحمل روح عبد الحميد . وقبل أن يفترقوا وضع الطالب الباديسي يده على كتف الطالب محمد الصالح، وقال له إنني أتنبأ لك بمستقبل علمي زاهر، فلا تنس أن تكتب عن شيخي وشيخك، فإنهما جديران بكل تقدير ! ؟ وشاء القدر أن يتحقق تنبؤ الرجل، ويزدهر مستقبل الطالب العلمي، ويكتب عشرات الكتب في مختلف الموضوعات، ويكتب عن الإمام ابن باديس شيخ الرجل، ويكتب عن شيخه هو العلامة الشرفاوي : خرست لعمر الله ألسننا لما تكلّم فوقنا القدرُ قضى الطالبان في بيت الرجل ليلتهما في نوم هادئ، ولم يرد أن يوقظهما لصلاة الصبح لتعبهما واستقبالهما لظروف قد تكون متعبة أكثر، فتركهما نائمين حتى حان موعد ذهابه إلى المتجر، ولم يبق إلا ما يكفي لتناول فطور الصباح، فأيقظهما وصليا الصبح، ثم أتاهما بالفطور وهو مكوّن من خبز الدار، وحليب البقر، والجبن، والبيض المسلوق، ثم اتجهوا إلى المتجر، وكان الجو صافيا مشرقا، والطبيعة متبرجة، والنسيم عليلا، والأطفال يمرحون هنا وهناك بوحي من الفطرة، والطيور تُرسل أنغامها في ترجيع مؤثر، وتوزيع مطرب، ولكن كل هذا لم يستطع أن يزيل عن نفسيْ الطالبين ما يشعران به من القلق، والخوف من الغد المجهول . وكان الطالبان بيّتا في نفسيهما أن يقضيا يومهما في التفسح في المدينة، وإن كانا طوفا بها في الأمس، ولكن الرجل قال لهما: غداؤكما عندي هاهنا في حدود الواحدة ولتكونا هنا على الثانية عشرة زوالا؟! تناولا الغداء في بيت الرجل وهو الكسكس مع لحم الدجاج، أكلا منه بشهية، وحاولا أن يأخذا منه ما يكفيهما في رحلتهما إذا لم تواجههما ظروف ليست في الحسبان، وكان الرجل يحثهما على الأكل لأنهما قد لا يجدان ما يأكلانه في رحلتهما. في محطة القطار ..! ثم اتجهوا إلى محطة القطار وعند دخولهم إليها قال لهم الرجل : انتظرا هنا حتى أعود أو اجلسا على المقعد الخشبي، الذي هناكما ! جلسا على المقعد وما هي إلا لحظات حتى شاطرهما رجل سميك العظم، جزيل اللحم، يظهر من زيّه أنه عامل يريد الاستراحة قليلا من عمل أرهقه، فسألهما : إلى أين تسافران؟ فأجابه المتحدث الرسمي، نحن جئنا لقضاء أيام عند عمنا بالمدينة، ثم نعود إلى بلدنا تبسة . ولكن الرجل كان ينظر إلى الطالبين نظرة المريب، ولحسن الحظ عاد الرجل ومعه الرجل الذي يحبّ العلم ويخدم أهله، وسبق أن دبّر لطالب طريقة لاجتياز الحدود إلى تونس، وكان الرجل أسمر اللون، غليظ الشفتين، جَهْوَرِي الصوت، تنمّ ملامح وجهه عن الجدّ والحزم، فصافح الطالبين ودعا لهما بالتوفيق ونصحهما أن يظهرا دأبا في مظهر طبيعي أينما حلاّ وأينما اتجها، ثم قال لهما : إنكما تركبان القطار الذي سيتحرك بعد قليل، إلى حيْدرة، وستجدان في استقبالكما على باب المحطة رجلا يدعى (سي محمد) ثم أخذ يصفه: إنه قصير القامة، ضخم الجثة، في صوته بحة، قد يزدريه من يراه ولا يعرفه، ولكنه في حقيقته رجل في المستوى المطلوب: عقلا، وخلقا، وسلوكا، راحته في خدمة الناس ومساعدتهم، وتخفيف آلامهم، ما وجد إلى ذلك سبيلا، وأضاف إلى ذلك قوله : وسيستقبلكما وفي يمناه جريدة حتى يسهل عليكما التعرف عليه ! والذي يثير الانتباه ويدعو إلى الاعتبار هو ذلك التقدير الذي يحظى به طالب العلم خلال عهد الاحتلال الفرنسي البغيض، فما إن يغشى مجلسا، أو يختلط بأفراد الشعب، حتى يشعر بالتقدير والتوقير، والمكانة المميزة له! وإذا هو احتاج إلى معونة ومساعدة، رأى فيهم ما يشجّعه على المضي في طريقه العلمي، كما كان حال هذين الطالبين في كل مكان حلاّ به ! وقد يجد طالب العلم أو المنتمي إليه من بعض الناس جحودا وتنكرا في ذلك العهد، ولكن ذلك منوط بالذين يوالون المستعمرين ويدورون في فلكهم ! ومن هنا يسجّل الطالبان إعجابهما وتقديرهما لأولئك الذين خفَقت قلوبهم لهما، وأكرموا وفادتهما، وخففوا عنهما متاعب السّفر بالإحسان إليهما، وضمنوا وفاء العهد بالكرم، والمروءة، والذمة !