نظمت، أمس، بالعاصمة وبمبادرة من "مركز أمل الأمة للدراسات"، ندوة فكرية حول الأزمة المالية العالمية من زاوية نظر المفكر والفيلسوف الجزائري المرموق مالك بن نبي، رحمه الله. * ويأتي الحدث، الذي يحمل مدلولا ثقافيا بحتا متزامنا مع أحداث سياسية بارزة لها علاقة بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالموضوع مثل الزيارة الرسمية التي يجريها حاليا الموفد الاقتصادي الفرنسي "جون بيار رافارين" لبلادنا بحثا عن فرص أخرى للنجاة من انعكاسات الأزمة المالية العالمية على الاقتصاديات الرأسمالية، وإعلان ايرلندا عن حاجتها لدعم إقليمي ودولي لمعالجة العجز القياسي في موازنتها العامة. * فماذا يعني أن يرتبط اسم مفكر وفيلسوف عرف بكتاباته ومحاضراته عن مشكلات الحضارة ونظم التفكير بموضوع الأزمات الاقتصادية؟ وماذا يكون مالك بن نبي قد أضاف في مجال الدراسات التي تناولت الاديولوجية المادية في التطبيقات الاقتصادية؟ * * المركز الرأسمالي تحت ضغط الاستهلاك * بلغ الطلب الاستهلاكي ذروته في الدول الصناعية الكبرى بفعل حالة الرفاه التي حققتها الاقتصاديات الرأسمالية، ولكن فرضية أولوية الاستهلاك على الادخار في سلوك العائلات الغربية تعود الى كتابات الاقتصادي البريطاني الكبير "جون كينز"، الذي ثار على فرضية المدرسة الكلاسيكية بشأن توزيع الدخل. وهكذا، تثبت الوقائع الاتجاه العام للمجتمعات الرأسمالية لتحقيق فرضية المدرسة الكينزية ومن ثمة شرع النظام المالي في تلك المجتمعات في مواكبة هذا الاتجاه من خلال اشتقاق القروض وبيع الديون وعمليات التوريق، مستفيدة في ذلك من آلية الفائدة. وكما يجمع الاقتصاديون، فإن تفضيلات الأفراد في الجانب الاستهلاكي غير محدودة بينما تتصف الموارد بالندرة، وعندما تعجز المداخيل المتاحة عن تلبية تلك التفضيلات تتحول المؤسسات المصرفية الى مراكز تجارية لعرض النقود. وأمام الطلب الزائد على السيولة، تأخذ الفوائد الربوية اتجاها متصاعدا لتصطدم بقرارات المستثمرين، ويتحول الاقتصاد إذن الى ساحة للمضاربة في القروض وفي الأوراق المالية على حساب الإنفاق الاستثماري وخاصة إذا تعلقت تلك القروض باستهلاك الأصول العقارية، كما حدث بالضبط في الاقتصاد الأمريكي قبيل سبتمبر 2008، حيث بلغت قروض المساكن سقفا لم تبلغه من قبل عندما لامست نسبة 10 بالمائة من سوق القروض. ونفس الشيء وقع باليونان وبالبرتغال وببريطانيا وبفرنسا ومؤخرا بإيرلندا، حيث فاق العجز في موازنة الدولة نسبة 34 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي وذلك بسبب توجيه السيولة لإسعاف البنوك التجارية والصناديق المفلسة. ويتأتى جزء مهم من عجز البنوك والمؤسسات المالية الرأسمالية عن عجز المقترضين عن الوفاء بالالتزامات تحت ضغط الفائدة الربوية وعن تراجع أسعار الأصول في سوق تتسم بمنافسة حرة وكاملة وعن مضاربة تلك المؤسسات في مدخرات الأفراد عبر أسواق المال مثلما يقع في صناديق التقاعد في كل من فرنسا وبريطانيا. وفي هذا الصدد، نقرأ للفيلسوف الجزائري مالك بن نبي تحليلا رائعا للاستهلاك كقيمة اجتماعية قبل أن يكون قيمة اقتصادية وأن الاستهلاك الزائد يؤدي الى الفساد وهدر الموارد وأن الحالة السليمة للاقتصاد تتحقق عندما يتحدد الاستهلاك بالإنتاج. أما المجددون في المدرسة الكلاسيكية فيضيفون إلى محددات الاستهلاك الطبيعية التي هي الدخل المتاح والأسعار محددا آخر هو الدخل المتوقع من عمليات المضاربة في أسواق المال وفي أحيان كثيرة عمليات الاقتراض من البنوك التجارية التي غالبا ما تعرض أسعارا مغرية للفائدة قبل أن تتحول هي ذاتها الى مؤسسات مدينة فمفلسة. * * العمل أو الطريق إلى الثروة * حققت البلدان الصناعية الكبرى تراكما رأسماليا تاريخيا بل قياسيا بفعل التوسع الاستعماري، وتشهد المستعمرة البريطانية الهند على التحول التاريخي للتاج البريطاني من التوسع الاستعماري الى التوسع الاقتصادي بفعل التجارة وشركات الاستثمار، ومازال طريق الحرير العابر لمنطقة آسيا عالقا في تاريخ الوقائع الاقتصادية كطريق للثروة، تماما كما ظلت المستعمرات البرتغالية والاسبانية والايطالية في افريقيا طريقا آخر للتوسع الاقتصادي عبر استنزاف الماس والذهب والنفط والرقيق، وعلى الرغم من التباعد الفكري الذي يفصلنا عن المدرسة الماركسية في الاقتصاد إلا أن تحليلات كتاب "رأس المال" لفائض القيمة الناجم عن الاستغلال البرجوازي لقيمة العمل هي تحليلات محترمة، وهاهو التاريخ يكرر مشاهده وتتحول أسواق المال في الاقتصاد المعاصر إلى طريق جديد للثروة دون عمل، وزاد التراكم الرأسمالي بفعل المضاربات وبيع الديون والرهونات إلى الدرجة التي أصبحت فيها السوق النقدية الأمريكية تستقبل 10 دولارات إسمية من عملية إصدار دولار حقيقي واحد وتحولت الاقتصادات الصناعية إلى اقتصادات النقود الوهمية وتبخرت السيولة الحقيقية كما تتبخر قطرات الماء بفعل الغليان. * لم يعد العمل كما كان وحده طريقا إلى تراكم رأس المال، ولم تعد الثروة نتيجة للعمل وحده، والنتيجة هي تراجع الاقتصاد الحقيقي أمام اتجاهات الاقتصاد الاسمي في جل البلدان التي اتبعت أسلوب الانتاج الرأسمالي بل وفي أكثر بلدان العالم تمتعا بالامكانات الفنية والمادية كأمريكا وبعض دول الاتحاد الأوربي. وفي هذا الصدد يقدم لنا مالك بن نبي تحليلا رائعا لعنصر الفعالية في الاقتصاد عندما يكتب في "تأملات" معرفا المال الضروري في معادلة التقدم ويصفه بالعمل المخزون. وبرأي ابن نبي العمل وحده هو الطريق للتراكم الرأسمالي، وفي هذه النقطة يلتقي فكر الرجل بالمذهبية الإسلامية التي تحرم الربا لأن الربا طريق آخر لتحقيق التراكم الرأسمالي دون عمل. وفي هذا تكمن أزمة النظام الرأسمالي الذي مازال يشكل ساحة خصبة لنشوب الأزمات ومنها الأزمة المالية التي لانزال نعيش بقية من فصولها.