ارتفعت أسعار بعض المواد الغذائية - واسعة الاستهلاك - من جديد في الأسواق الدولية، ولامست الزيادة في بعضها 34 بالمائة في عام وأسعار بعضها زادت ب45 بالمائة، كما هو شأن مادة "الذرة" التي تعد المادة الأولية لصناعة بعض أنواع زيت المائدة. * وسرعان ما أبدت الأسواق المحلية لجل الدول العربية بما فيها الجزائر استجابة فورية لتلك الزيادات من خلال تسجيل موجة جديدة من التضخم ستدفع بأسعار سلة أخرى من السلع نحو الصعود، أي السلع المصنعة من مشتقات الزيت والسكر والحبوب والبقوليات والأرز. وبررت الحكومة الزيادة المذكورة بتقلبات الأسعار في الأسواق الدولية دون أن تشرح لنا لماذا لم تستجب السوق الوطنية لتلك التقلبات في حالة انخفاض الأسعار ولماذا تكون الاستجابة دائما في اتجاه واحد أي اتجاه الزيادة. * فماذا يعني أن ترتفع أسعار المواد الغذائية الاستراتيجية في الأسواق الدولية؟ وماذا يعني أن تتسم الاقتصاديات المبنية على الاستيراد بمرونة قوية للأسعار الخارجية؟ وما هي حدود الارتفاع في سلة الغذاء وأثر ذلك على متوسط القدرة الشرائية للمواطنين وبالتالي على تماسك الجبهة الاجتماعية؟ *
* الطلب الصيني المتزايد * تتوقع الصين أن يزيد طلبها على واردات مادة "الذرة" الضرورية لصناعة زيت المائدة من 8 ملايين طن العام 2010 إلى 15 مليون طن العام 2015 أي بزيادة متوقعة تلامس 90 بالمائة، وفي حالة استقرار المنتوج العالمي من هذه المادة الاستراتيجية وتقدم الاستخدامات الطاقوية للمزروعات الغذائية، أي تكنولوجيا الطاقة الحيوية، فإن سعر مادة كهذه سيواصل ارتفاعه الى المستوى الذي يستقر فيه الطلب الداخلي. والأمر لا يخص فقط مادة "الذرة" ولكن أيضا منتوج "فول الصويا" و"عباد الشمس" المستعمل هو الآخر في إنتاج زيت المائدة. وزاد الطلب الصيني على واردات "فول الصويا" بنسبة 500 بالمائة في عشر سنوات أي منذ العام 2000 لتلامس حاليا سقف 57 مليون طن، مما يعني 60 بالمائة من مجموع الواردات العالمية من هذه المادة الأساسية في صناعة زيت المائدة. * وتأتي الزيادة في الطلب الصيني على المزروعات المنتجة للغذاء على خلفية التطور السريع التي شهدته بكين على صعيد تحسّن القدرة الشرائية للصينيين الذين تحولوا في وقت قصير إلى النموذج الاستهلاكي "الكينزي" المبني على أثر الدخل المتاح في حفز الطلب على الاستهلاك، أي حفز الطلب الفعال الذي ظل راكدا في فترة الحكم الشيوعي للبلاد. وعادة ما تنفجر فقاعة الأسعار عند الحد الأدنى للمخزون الذي يتآكل دوما تحت ضغط الطلب الزائد عن الانتاج أو عن نقطة التوازن بين العرض والطلب، كما يحدث حاليا تماما، حيث تزامن الحد الأدنى للمخزون العالمي من المحاصيل الاستراتيجية مع الربع الأخير للعام 2010. ونفس الكلام ينطبق على مادتي السكر والقمح وعلى مواد أخرى ولو بدرجة أقل كالأرز والبقوليات ولكن من وجهة تأثير مختلفة. *
* النفط الذي يغذي ارتفاع الأسعار * أفادت مصادر من وزارة الطاقة والمناجم، الاثنين الماضي، أن إيرادات الجزائر من إنتاج المحروقات العام 2010 لامست سقف 55.7 مليار دولار، نتيجة تزيد عن مستوى العام 2009 بنسبة 28 بالمائة وهي نفسها النسبة التي زادت بها في المعدل أسعار المنتجات الغذائية في السوق العالمية. وإذا عدنا لمصادر "سوناطراك" في التصريح بإنتاج الجزائر من النفط العام 2010 الذي شهد انخفاضا غير محسوس حسب وزير القطاع أدركنا أن النتيجة المالية لصادراتنا من المحروقات ارتبطت بقوة العام الماضي بالسعر المريح الذي بلغه سعر البرميل من النفط حيث استقر في حدود 80 دولارا كما يحدث باستمرار، وهو ما غذى فعلا ارتفاع كلفة الطاقة لمصانع الزيوت والسكر وبعض الصناعات الغذائية في الدول الصناعية وسرعان ما انعكس ذلك على بورصات المواد الاستراتيجية في كل من "شيكاغو" و"لندن" التي أبدت استجابة فورية تحت ضغط عوامل غير تجارية أبرزها "المضاربة" و"البيوع الورقية"، وفي الأخير استجابت الدول الناشئة الأكثر استيرادا للغذاء بصورة أسرع بفعل احتكار استيراد المواد واسعة الاستهلاك من طرف لوبيات التجارة الخارجية، وهو المشهد الأكثر تكرارا في الجزائر منذ أن حررت أسعار المنتجات الزراعية العام 1994. * ومما أضعف قدرة الزيادة في إيرادات النفط على دعم حسابات الميزانية لبلد مثل الجزائر، هو تراجع سعر صرف الدولار الذي هو وحدة تسعير تجارة النفط أمام العملات الأكثر تداولا في أسواق الصرف، أي اليورو واليوان، خاصة وأن سياسة الدولار الضعيف التي مازالت واشنطن تتبعها لم تنجح بعد في ضبط الميزان التجاري الأمريكي، مما يدفع بالسلطات النقدية الى مزيد من التخفيض كلما أبدت بكين قدرات تجارية أكبر. *
* المآل المحتوم لاقتصاديات الريع * تستجيب الاقتصاديات المبنية على الصناعة والتكنولوجيا والمعلومات إيجابيا لارتفاع أسعار الطاقة، حيث يكون من السهل تحويل تلك الزيادة في التكلفة الى أرباح إضافية من خلال بورصات المواد الغذائية وأسواق المواد كاملة الصنع وحتى المواد نصف المصنعة والمنتجات المشتقة من النفط، ويزيد معدل الزيادة في أسعار المواد المصنعة عن 5 دولارات لقاء زيادة بدولار واحد في أسعار النفط، ما يعني أن تجارة الريع لا تساوي شيئا أمام تجارة الصناعة والتكنولوجيا. وعندما تزيد إيرادات البلدان النفطية والبلدان متوسطة الدخل القومي دون أن يكون لتلك الزيادة أثر متناسب على المداخيل الحقيقية للمستهلكين أي على قدرتهم الشرائية فتلك نتيجة منطقية في اقتصاد مبني على الاستيراد بدل الانتاج، ومن حق كل مواطن أن يدرك معادلة الأسعار عندما يتعلق الأمر بسلة الغذاء، فنحن حقا لا ننتج مما نستهلك من المواد الغذائية الاستراتيجية أكثر من 40 بالمائة في المعدل، وأن وارداتنا من الغذاء تشكل وحدها ميزانية كاملة داخل ميزانية الدولة وأن هذه الواردات قد عاودت الارتفاع أواخر العام 2010 بشكل لافت، حيث أفادت مصادر الجمارك الجزائرية بأن محفظة استيراد الغذاء في شهر واحد هو نوفمبر الماضي بلغت 528 مليون دولار بزيادة قدرها 35.4 بالمائة عن نفس الشهر العام 2009؛ زيادة تفوق نسبة الزيادة في إيرادات المحروقات خلال عام. وحتى يعرف المواطن الى أي حد تشكل واردات الغذاء تحديا حقيقيا أمام مستقبل الأسرة الجزائرية، يكفيه أن يعرف بأن نسبة الغذاء المستورد خلال شهر نوفمبر الماضي شكلت 11 بالمائة من المتوسط الشهري لإيرادات البلاد من التصدير، وأن هذه النسبة زادت عن نظيرتها العام الماضي، حيث سجلت مستوى 09 بالمائة؛ رقم شاهد على مآل الاقتصاديات المبنية على الريع في ظروف دولية تتجه إلى خفض الطلب على المحروقات لإدارة الصناعة، في حين تتجه الدول الناشئة وعلى رأسها الصين الى زيادة الطلب على الغذاء لإدارة مستوى معيشي للسكان آخذ في التحسن.