لا تزال أزمة الحليب بعد مرور أيام طويلة تلقي بظلالها، على العديد من ولايات الوطن التي غابت عن الكثير من محلاتها التجارية أكياس الحليب، والتي إن حضرت تكون في وقت مبكر جدا أو متأخر جدا، بعد انصرف الأطفال لمدارسهم، دون أن يحتسي أكثرهم حليبهم اليومي، رغم أهمية وحيوية هذه المادة التي تدعمها الدولة بفاتورة تقدر بملايين الدولارات، فعلى مدار الأسبوع لا أكياس للحليب، فقط طوابير طويلة تبدأ مع أذان الفجر وتمتد حتى آخر الشارع وسط شجارات قد تستعمل فيها حتى الأسلحة البيضاء، والكل ينتظر وصول شاحنات التفريغ، عل الحظ يسعفهم لاقتناء ما استطاعوا من أكياس. تجار في قفص الاتهام..ولا حليب دون «معريفة» يشتكي المواطنون ومنذ أيام طويلة من نقص كبير في مادة الحليب، وكلما اعتقدوا أن المسألة ستسوى في القريب العاجل، خاصة بعد أن تناهي إلى أسماعهم، أن كميات البودرة المحجوزة على مستوى ميناء الجزائر، لاستكمال الإجراءات الجمركية سيفرج عنها قريبا، زادت معاناتهم أكثر، فالنقص يزيد يوما بعد يوم والأمر لم يعد يتعلق فقط بتأخر وصول كمية الحليب إلى منتصف النهار، بل أصبحت شاحنات التوزيع تغيب تماما وإن حضرت، ففي الصباح الباكر ولا تقدم إلا الحد الأدنى، وما زاد من تفاقم الوضع أكثر السلوكيات غير المهنية وسياسة الاحتكار والمضاربة في الأسعار التي يمارسها بعض التجار، فالكثير منهم كما يؤكد المواطنون يقومون بتخزين كمية الحليب التي تصلهم ويحاولون إقناع المواطن، أنهم لم يزودوا بها أصلا، ليقوموا ببيعها في ما بعد بأسعار مرتفعة جدا، وصلت في بعض المحلات على مستوى العاصمة إلى 60دينارا للكيس الواحد، متحججين بالنقص الذي تعرفه مادة بودرة الحليب، ففي الكثير من الأحيان يرى المواطن بأم عينيه، شاحنات الحليب متوقفة أمام المحل، لكن يفاجئه التاجر بالقول إن أكياس الحليب غير متوفرة. ولأن الكثير من التجار من أبناء الحي، فإنه يوهمون الزبون، إنه لمكانته الخاصة بالنسبة لهم احتفظوا له بكيس حليب، لكن سعره مضاعف، وأمام حاجة المواطن، فإنه يضطر للدفع ظنا منه أنه محظوظ، فدون «معريفة» لا يمكنك بأي حال الحصول على كيس واحد. خلال جولة قادتنا إلى بعض المحلات ودردشتنا مع أصحابها، أكد لنا أغلبهم، أنهم لم يزودوا بهذه المادة منذ عدة أيام، في حين أن بعضهم الآخر، زود بها لكن بكميات قليلة جدا لا تغطي حتى احتياجات الزبائن العاديين. المواطنون من جهتهم أكدوا أنهم يعانون حتى في الأيام العادية من نقص في كميات الحليب، خاصة في الفترات المسائية ونهايات الأسبوع، فما بالك بالظروف الحالية التي تعرفها عملية إنتاج وتوزيع هذه المادة التي لا تستغني عليها كل الأسر الجزائرية، وحتى وإن توفر الحليب في هذه المحلات، فلن يكون قبل منتصف النهار على أقل تقدير، مما سبب الكثير من الإزعاج للسكان خاصة وأن للكثير منهم ارتباطات، ولا يسعهم التردد بين الحين والآخر على المحلات للسؤال عنه، لذا كثيرا ما يدخلون في مناوشات مع التجار، لأن هؤلاء حسب اعتقادهم هم من يقفون وراء أزمة الحليب أو على الأقل ضاعفوها، ببيعها لمن يريدون بعيدا عن الأنظار، فمن المؤسف، كما يضيف بعضهم أن نعيش مشكلا في هذه المادة الأساسية حتى في غير المناسبات، فما عاشه السكان شهر رمضان الفارط عاد وبحدة هذه الأيام، دون أن يجدوا إجابات شافية أو حتى مقنعة حول ندرة هذه المادة، غير ما يردده عليهم بعض التجار وما يقرؤونه على صفحات الجرائد، من جهتهم يؤكد التجار أن للسكان اليد الكبرى، فيما تعرفه المنطقة من نقص كبير في مادة الحليب، فالكثير منهم وبتواطؤ بعض التجار يشترون كميات كبيرة و يقومون بتخزينها، رافضين تحمل المسؤولية وما يوجهه لهم بعض المواطنين من اتهامات، أما بخصوص رفع الأسعار، فقد فندوا ما جاء على لسان المواطنين، مؤكدين أن سعر الكيس لم يتجاوز25 دينارا، وحتى وإن سجلت حالات فيتحمل أصحابها وحدهم المسؤولية. طوابير طويلة للحصول على كيس حليب ولو بحد السكين اختفاء أكياس الحليب مجددا من المحلات بالعديد من المدن الجزائرية، مع تسجيل زيادة في الأسعار ببعض المناطق، وصلت 60 دينارا للكيس الواحد، رغم دعم الدولة للمادة، لم يمر مرور الكرام خاصة على العائلات التي لديها أطفال، فراح الكثير منهم في رحلة بحث شاقة عن أكياس الحليب حتى وإن اضطر إلى ترك صلاة الفجر والوقوف في طابور لا ينتهي، لساعات أمام المحل، ينتظر قدوم شاحنات التوزيع ولأن الكل يريد الحصول عليه، مهما كان الثمن، فكثيرا ما تحدث العديد من الشجارات، تكون الكلمات النابية العنوان المميز لها وقد يتطور الأمر إلى حد استخدام السكاكين، كما حدث في بعض بلديات العاصمة كالكاليتوس وباش جراح، أمور أصبحت تؤرق التجار وتسبب لهم العديد من المشاكل، أصبح يستحيل معها، حتى تفريغ الصناديق من الشاحنات، مستغربين من الوقت المبكر الذي يأتي فيه المواطنون للمحلات والأدهى كما يؤكد البعض أن المواطن ساهم بشكل أو بآخر في تأزم الوضع، فالكثير منهم لا يفكر إلا في نفسه واقتناء العشرات من الأكياس وتخزينها في الثلاجة ولا يهمه إن حرم منها باقي المواطنين، فثقافة الاستهلاك تغيب كليا لدى زبائنهم والأدهى أن الكثير منهم لا يتوانى أبدا في التودد للتجار وعرض حتى أسعار مضاعفة ليحتفظ لهم بأكياس، ما أصبح يسبب لهم الكثير من الحرج، خاصة أنهم زبائن دائمون وإن كان البعض يتفهم دوافعهم،خاصة وإن الكثير من العائلات لا قدرة لها على اقتناء حليب البودرة أو علب «كونديا» ولا يتقبلون في الوقت نفسه التحاق أطفالهم بمقاعد الدراسة دون حليب. غلاء فاحش في حليب البودرة..و«كونديا» لمن استطاع إليها سبيلا يستحيل على المواطن هذه الأيام وفي الكثير من الأحيان حتى وإن زار المحل باكرا، الظفر بكيس حليب واحد لأن الكمية التي تصل تنفذ حتى قبل دخولها جراء الطوابير الطويلة، لتجبر الكثير من العائلات ومن أجل أطفالها على اقتناء حليب «لحظة» حتى وإن كان سعر العلبة الواحدة لا يقل عن 260 دينارا ويفوق قدرتها الشرائية بكثير ولتجاوز الأزمة تعمد العديد من العائلات إلى مضاعفة كمية الماء بالحليب حتى لا تنفذ سريعا، خاصة إن كان عدد أطفالها كبيرا، أما البعض الآخر فإنه مضطر أمام رفض أطفاله لتناولها إلى اقتناء حليب «كونديا» الذي يصل سعره إلى 70 دينارا، فكما يؤكد العديد من التجار، فإن الإقبال على حليب البودرة من قبل العائلات الفقيرة رغم غلائها زاد خلال الفترة الأخيرة بشكل كبير، في حين حافظت علب "كونديا" على زبائنها التقليديين من العائلات الميسورة التي تقتنيها حتى بوجود أكياس الحليب، كما أسر لنا العديد من التجار، أن الكثير من الزبائن يقتنون هذه العلب بالاستدانة. نقص البودرة..سوء التوزيع..زيادة الطلب..تعددت الأسباب والنتيجة واحدة دخلنا الأسبوع الثالث والكل يتساءل لما ذا تغيب أكياس الحليب؟، حاولنا التقصي حول الأسباب الكامنة وراء الدوامة التي دخلها المواطن مجبرا، فأجمع كل من تحدثنا إليهم أن نقص مسحوق البودرة هو السبب، خاصة بعد حجز كميات معتبرة منها بميناء الجزائر مؤخرا، لكن البعض يؤكد أن هذا السبب المباشر الذي تفسر به لجهات المعنية ما يحدث ليس الوحيد، حيث يؤكد الناطق الرسمي للاتحاد الوطني للتجار و الحرفيين الجزائريين، أن الاعتماد على استيراد البودرة وعدم التفكير في حلول جدية أوصل الأمور إلى ما هي عليه، إضافة إلى العديد من الأمور الأخرى التي تتعلق بسوء التوزيع الذي بات يحكمه في الكثير من الأحيان، منطق العلاقات الشخصية، وهو طرح لا يختلف كثيرا على ما ذهب إليه، الأمين العام للاتحاد الوطني للفلاحين الجزائريين الذي يؤكد أن ما أزم الوضع أكثر، هو الاعتماد على سياسة الاستيراد، مضيفا أن الأمور من شأنها أن تتعقد أكثر خلال الأشهر القادمة، مادامت هذه المادة تحكمها سعر السوق العالمية، لذا لا بد في إيجاد البديل والاستثمار في رؤوس الأبقار والاستغناء كليا خلال السنوات الثلاث المقبلة عن هذه المادة التي تكبد خزينة الدولة أكثر من 1.5 مليار دولار. تبادل للتهم...والمواطن يدفع الفاتورة أزمة طال أمدها وأصبحت تكلف المواطن الكثير من الجهد والوقت والمال وما يشد الأعصاب أكثر، أن عيد الأضحى المبارك على الأبواب وأكيد ستزيد الحاجة لهذه المادة الحيوية، واقع دقت معه الجهات المعنية ناقوس الخطر وراح كل طرف يبرر موقفه ويرمي بالكرة في ملعب الآخرين، فالمنتجون وعلى رأسهم 118 وحدة للتحويل والتعبئة، يؤكدون أن مسحوق بودرة الحليب لا يصلهم بانتظام وأن الديوان الوطني للحليب يرفض تموينهم بالكميات اللازمة، متحججا بالكميات التي تم حجزها مؤخرا بميناء الجزائر، ما أجبر العديد منهم على اقتنائها من الأسواق الموازية ولأنها تكلفهم الكثير فهم يفضلون توجيهها إلى صناعات أخرى كالياغورت، من جهتها وزارة الفلاحة أكدت على لسان مسؤول بها أن الأمر يعود بالأساس إلى نقص في مادة البودرة وأن الوزارة تحضر حاليا بالتنسيق مع الهيئات المعنية، خاصة وزارة التجارة لإيجاد حل استعجالي، وحاليا يكمن الحل الوحيد في استيراد كميات كافية من البودرة، لكن في القريب ومن خلال المخطط الخماسي التنموي لرئيس الجمهورية، ستعتمد برامج تلبي على الأقل 75 بالمائة من حاجيات السوق الوطنية، عن طريق دعم مربي الأبقار والمستثمرين الذين أبدوا رغبتهم في خوض التجربة، إذ ما منحت لهم تسهيلات، محملا جزء كبيرا من المسؤولية للمنتجين الذين أصبحوا يوجهون البودرة لصناعات أخرى، ما أثر على كمية الإنتاج بشكل كبيرة، رافضا جملة وتفصيلا ما يكيله هؤلاء من اتهامات للديوان الوطني المهني للحليب، بخصوص الكيل بمكيالين في توزيع البودرة، فالجميع يتحصل على «كوطته» وإن كان البعض ينهيها قبل الآجال، فالديوان لا يتحمل المسؤولية، وزارة التجارة هي الأخرى، أكدت على لسان مسؤولها الأول «مصطفى بن بادة»، أن الأمر سيسوى مع نهاية هذا الشهر على أقصى تقدير، مؤكدا أن تضاعف الطلب مع بداية الأزمة هو ما أوصل الأمور إلى ما هي عليه. وبين تنصل البعض من المسؤولية واعتماد البعض لحلول ترقيعية، لأزمة لا يبدوا أنها ستنفرج قريبا، حتى بشهادة القائمين على القطاع، يبقى المواطن البسيط الذي لا يتحمل جيبه اقتناء حليب «لحظة» أو «كونديا» يدفع وحده الفاتورة.