لم تعد فرنسا تنكر حقيقة أنها ركزت طيلة العقود الماضية على التبادل التجاري مع الجزائر دون أن تستثمر، ويبدو أن مرحلة جديدة في العلاقات الاقتصادية بين البلدين بدأت مع هذا الإعلان الفرنسي عن التوجه إلى أسلوب أكثر توازنا يضمن المنفعة للطرفين. ليس «جان بيار رافاران» الفرنسي الوحيد الذي يتحدث عن المشاريع الصناعية الطويلة المدى والشراكة المربحة مع الجزائر، فرئيس الغرفة التجارية الفرنسية العربية «هارفي دوشاريت»، وهو وزير سابق تولى عدة حقائب منها الدفاع والخارجية، يرى أن الاستثمار في الجزائر «ضرورة مطلقة» بالنسبة لفرنسا، ويصف العلاقات الاقتصادية الجزائرية الفرنسية بأنها «جيدة بل ممتازة»، ويعترف «لكنني أرى بأن أصدقاءنا الجزائريين على صواب عندما يقولون إن هناك نشاطات تجارية كثيرة واستثمارات قليلة في الجزائر»· ولتُثبت فرنسا نيتها في بناء الشراكة المربحة للطرفين أعادت فتح ملف شركة رونو من خلال إعادة صياغة المشروع الاستثماري بما يتوافق مع المطالب الجزائرية المتعلقة بنقل التكنولوجيا وتوطينها وخلق مناصب شغل، ويبدو أن وتيرة حل عقد الاستثمار الفرنسي في الجزائر تسير بوتيرة سريعة، وهو أمر عبر عنه «رافاران» في ختام مباحثات مع الوزير الأول «أحمد أويحيى» استمرت ثلاث ساعات، وإذا تم الانتقال إلى تجسيد الوعود على الأرض فالأرجح أننا سنكون أمام تحول كبير في العلاقات الجزائرية الفرنسية. طيلة عقود الاستقلال اكتفت فرنسا بالتركيز على تصدير منتجاتها إلى الجزائر، وإذا كان الاستثمار غير وارد في فترة الاقتصاد الموجه، فإن الانفتاح في تسعينيات القرن الماضي لم يكن كافيا لإغراء الشركات الفرنسية بالاستثمار في الجزائر، وربما تم تبرير الأمر خلال التسعينيات بالأزمة الأمنية التي كانت تمر بها الجزائر، لكن التردد في مطلع العشرية الأولى من القرن الحالي أعاد طرح الأسئلة حول علاقة الاقتصادي بالسياسي في السلوك الفرنسي حيال الجزائر. مثال بسيط قد يعكس هذا التردد غير المبرر، فقد تأخرت شركة الخطوط الجوية الفرنسية كثيرا في إعادة تسيير رحلات نحو مطارات الجزائر على عكس شركات أوروبية أخرى من إيطاليا وإسبانيا، وحتى عندما أرادت الشركة العودة سعت إلى فرض بعض الشروط، وكانت القراءة التي قدمها الجزائريون هي أن الشركات الفرنسية كانت تتصرف وفق إملاءات سياسية، وتأتي التقارير الدورية السلبية لهيئة التأمين على التجارة الخارجية «كوفاس»، والمتناقضة مع التقييم الإيجابي لهيئات مماثلة في أوروبا وأمريكا، لتؤكد أن خيوط الاقتصاد تحركها أصابع الساسة، وأن هناك نية واضحة للضغط على الجزائر رغم أن المسؤولين الفرنسيين ظلوا يرددون دائما مقولتهم المعروفة عن استقلالية الشركات الفرنسية التي لها كامل الاستقلالية في تقدير المكان الذي تضع فيه استثماراتها، ولم يكن الحديث عن استقلالية الشركات ولا عن استقلالية القضاء الفرنسي، عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الجزائر، مقنعا لأحد من المسؤولين هنا. ما كان للجزائر أن تبقى مكتوفة الأيدي في انتظار تحول في الموقف الفرنسي، فقد سعت إلى تنويع شركائها، وأفلحت في جلب كثير من المستثمرين الأجانب في مختلف القطاعات، وحسنت أداء اقتصادها، وتحكمت بشكل أفضل في مواردها، وحققت استقرارا ماليا غير مسبوق أثنى عليه مدير صندوق النقد الدولي «دومينيك ستروس كاهن»، وهو سياسي فرنسي بارز، وفوق هذا بدأت في وضع قواعد جديدة لتنظيم الاستثمارات الأجنبية في الجزائر، وخلال سنوات قليلة بدأت حصة فرنسا في السوق الجزائرية تتراجع رغم حرص جزائري واضح على إبقاء العلاقة الاقتصادية مع فرنسا بعيدة عن آثار الخلافات السياسية. هذا التحول أدركته فرنسا وهي تريد أن تستدرك بسرعة الآن، ولأنها تعلم أنها تأخرت كثيرا فلا بد من التعامل مع الواقع الجديد، وهو ما يعني احترام التشريعات المعمول بها في البلد، وهي تشريعات كان المتعاملون يعتبرونها إجراءات حمائية، والسعي إلى التكيف مع مطالب الاقتصاد الجزائري، فقبل سنتين من الآن كان من الصعب تخيل مسؤول فرنسي يأتي إلى الجزائر ويقول "لقد جئت بهدف الإصغاء للسلطات الجزائرية لالتزم بالتالي بتوجهاتها" كما فعل رافاران الأسبوع الماضي، أو أن يقول السفير الفرنسي هنا للمتعاملين الاقتصاديين الفرنسيين إن عليهم التكيف مع التشريع الجزائري والقواعد التي تحكم الاستثمار. ما من شك في أن تحولا في العلاقة بين الجزائروفرنسا يحدث الآن، لكن السؤال الكبير الذي يظل معلقا هو أي صفقة يكون البلدان قد توصلا إليها من أجل تجاوز العقد السياسية الكثيرة التي ظلت تحكم كل تفاصيل العلاقة بين البلدين ؟ وربما كان الأجدر بنا أن نسأل هل تم اللجوء إلى قاعدة الاقتصاد لجعلها أساسا لعملية إعادة تأسيس العلاقات التي تحدث عنها «هوبير فيدرين» عندما زار الجزائر بعد فترة وجيزة من مجيء الرئيس «بوتفليقة» إلى الحكم سنة 1999؟ ستحمل الأيام القادمة الإجابات وكثيرا من المفاجآت.