أحدثت المسلسلات الدرامية، التي بات يطالعنا بها صندوق العجب عبر مختلف الفضائيات العربية، التي أغدقت وبكرم متقطع النظير، بسيول من العواطف الجياشة التي لم ترحم لا كبيرا ولا صغيرا، ثورة حقيقية في المفاهيم، فقصص الحب تفشت بشكل مذهل حتى بين تلاميذ المؤسسات التربوية، الذين استوعبوا وبامتياز دروس المسلسلات التركية وحتى السورية والخليجية، مادام المدرسون على قدر كبير من الكفاءة يجعلون الراشد يؤمن بما يقدم، فما بالك بأطفال تنقش المفاهيم بعقولهم كما ينقش على الحجر..نظرات، همسات، ورود حمراء، رسائل لا يكادون يفكون فيها الخط، تنافس قصص حب الشباب والمراهقين. واقع تعيشه الكثير من مؤسساتنا التربوية بسبب أبطال المسلسلات الدرامية، التي أيقظت في التلاميذ مشاعر الحب، قبل الأوان ودفعتهم لرحلة البحث عن علاقة مبكرة جدا مع الطرف الآخر، ينفس بها عن نفسه من كثافة البرنامج الدراسي الذي شد أعصابه، جراء التخوف الرهيب من الفشل والرسوب، ومنهم من يبحث عن الدفيء والحنان، اللذين غابا عن البيت والأسرة، لسبب أو لآخر، فإما أن الوالدين أو أحدهما فظ الطباع لا يعرف من الأبوة إلا الإنجاب والإنفاق والرمي إلى الشارع ليربى وللتلفزيون ليثقف ويعلم ببرامج وحصص ومسلسلات لا تتناسب أبدا مع سنهم، أو أنهما منشغلان بالعمل ومشاكل الحياة لا متسع لهما من الوقت، ليعتنيا بصغيرهم ويغدقا عليه بالحب والحنان الذي يكون في أمس الحاجة إليه في هذه السن المبكرة، استقالا من الأبوة وتركا الحرية لصغيرهما يفعل ما يشاء، فهو ابن جيله والإيقاع السريع، الذي تسير عليه الحياة، أصبح يبيح كل شيء ويسمح بكل شيء. وداعا..للرسوم المتحركة وبرامج الأطفال تعيش اليوم المسلسلات الدرامية وقصص الحب المليئة بالمشاعر الفياضة، أزهى أيامها بعد أن زكاها الكل، حتى الأطفال، لتكون على رأس البرامج التلفزيونية وتحوز على حقوق المشاهدة الحصرية..أطفال وبراعم يحفظون على ظهر قلب مضامين هذه المسلسلات في وقت يصرف فيه الكثير نظره عن دروسهم ومقرراتهم التربوية، فأسماء أبطال المسلسلات يحفظونها ولا حديث لهم حتى خلال الحصص الدراسية إلا عن أحداث المسلسل، ليستشرف بعضهم بكثير من البراءة حتى ما سيحدث، مسلسلات سرقت منهم البراءة دفعتهم ليطلقوا الرسوم المتحركة وبرامج الأطفال التي لم تعد تمتعهم ولا تلفت نظرهم، القنوات الفضائية المتخصصة في برامج الأطفال انصرف عنها غالبية الأطفال، إلا من مازالت تمارس في بيته سلطة الأبوة ويُختار له ما يشاهد، فلم يعد الأطفال يتحدثون عن «البيكومون»، «سلاحف النينجا»، «الجاسوسات» بل كل همهم، أصبح منصبا على «لميس»، «مهند»، «مراد علمدار»، فالوافد الجديد بسط نفوذه ولا مهرب من محاكاته حتى في قصص الحب، التي لا تصلح مشاهدتها إلا للبالغين، الذين تمكنهم قدراتهم العقلية من التمييز بين الخطأ والصواب، مسلسلات زرعت في نفوس أطفالنا مفاهيم جديدة راحوا ببراءة يمارسونها في حياتهم وبمؤسساتهم التربوية دون أن يدركوا ما يجوز منها وما لا يجوز، فعدوى الحب انتقلت إليهم من العشاق والمحبين، الذين تعج بهم الثانويات والجامعات وحتى الشوارع والحدائق العمومية بفعل هذه المسلسلات، لتصبح الكثير من أقسام الطورين الأول والثاني، مسرحا لحكايات تجعلك تضحك أحيانا لطرافتها وتشمئز أحيانا أخرى لما يحدث، في أماكن يفترض، أنها للتربية والتعليم وتكوين الناشئة عماد المستقبل، التي ستقود مركبة الأمة، فكيف سيكون الوضع مع شباب ينتهل معارفه ويؤسس ثقافته من مسلسلات مبنية على سيناريوهات الكثير منها لا يمت للواقع بصلة، حكايات الكثير منها مجنون، تغزوا العقول وتستبد بالقلوب، لجني الأموال الطائلة وتبني الأسماء الفنية، شهرتها ومجدها، لكن أطفالنا، الذين انكبوا عليها وتبنوا أفكارها وطلقوا لعيونها برامجهم الترفيهية ورسومهم المتحركة، أصبحوا مهددين فكريا وتربويا، فكيف سيكون الحال بعد سنوات، بعد أن تشتد سواعدهم ويبلغون سن الرشد، والكل يدرك أن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، هل سيمحى ما سيكتب على هذه الصفحات البيضاء، كيف سيكون حال المجتمع الذي يبنيه هؤلاء الأطفال، الذين أدمنوا هذه المسلسلات وأصبح الكثير منها مرجعا لهم في الحياة، في اللباس، الحديث، وحتى التفكير. سلوكيات الأطفال تحاكي أبطال المسلسلات قصص كثيرة تعيشها أقسامنا التربوية حتى بالمدارس الابتدائية، التي تسلل إليها كلام الحب بكثير من الاستحياء، فالكثير من التلاميذ على مستوى ابتدائيات العاصمة مثلا، دخلوا في علاقات غرامية، تجدهم بساحة المدرسة مثنى مثنى، لا تفرقهم إلا ساعات الدراسة، إن كانوا لا يدرسون بقسم واحد، أما إن كان العكس، فهم حريصون على تناول وجبة الإفطار معا بالمطعم المدرسي وحتى «اللمجة»، بكثير من البراءة يحاول اقتباس كلمة سمعها من البطل، ليبهج بها صديقته، التي تحاول هي الأخرى التمرد على براءتها وحفظ كلمة لا تستعصي على لسانها، بسبب سنها، والغريب أن بعضهم يحتفل حتى بما يسمى عيد الحب ويعرفان حتى ماذا يجب أن يقدم الحبيب وماذا تقدم الحبيبة، ليتفوقا حتى على الراشدين الذين لا يعرفان حتى هذا العيد..الورود الحمراء لغة المحبين حاضرة فلا حب عندهم دونها، أما أعياد الميلاد فحدث ولا حرج، فيدخران و يفعلان المستحيل، لتجميع مبلغ يمكنهما من شراء هدية تناسب المقام ومقدار الحب، وإلى جانب الرسائل الغرامية التي لا يكادون يفكون فيها الخط التي يحملونها الأشواق، نجد أنه حتى الهاتف النقال حاضر بقوة،فبعض الأولياء، الذين حرصوا على تزويد أبنائهم بها حتى يطمئنوا عليهم ويتصلوا إن حدث شيء ما، يسرت عليهم كثيرا تبادل مشاعر الحب بلغة لا يفقهون منها إلا الكلمات، ومن أكثر الكلمات،التي تدعوا فعلا للطرافة والعجب في آن واحد، أن الكثير من الشجارات التي تحدث بين التلاميذ داخل الأقسام أو بساحات المؤسسة وحتى خارجها، تكون بسبب تلميذة، فالحب دون غيرة لا معنى له ولا طعم، فهو حريص أن يبقى الجميع بعيدا عن فتاته وحتى هي يجب أن تحترم «رجولته» ولا تستفز أبدا مشاعره ولا سيخاصمها ويهجرها وحتى يخونها مع أخرى، ومن طرائف ما ترويه لنا السيدة، «نورة» معلمة بالطور الابتدائي، أن ما يعيشه فصلها، يدعوا فعلا للعجب، فلا حديث لهم إلا أبطال المسلسلات وهم يصرون أن يجلسوا مع بعض، رغم أني دائمة التنبيه على تجنب الاختلاط والأدهى أن بعض التلميذات تضع بعض مواد التجميل، ومن العلاقات التي أخذت فكرة على وجودها بقسمي، علاقة «ليلى وفارس» التي يعلم بها تقريبا كل المدرسة، فهو لا يفترقان أبدا، ففي إحدى المرات وأنا أراقب التمارين التي طلبت من تلاميذي إنجازها، فوجئت بوجود رسالة بكراس «فارس» وما لفت انتباهي رائحتها العطرة، فهو كما أخبرني، رشها بعطر والدته، قبل كتابتها، رسالة لم أفهم منها، إلا عبارة «نحبك ونموت عليك»، ولما واجهته احمر وجهه وأكد لي أنه يحبها وأن قصده شريف سيتزوجها بمجرد نيل شهادة البكالوريا، وأنهما اتفقا على إنجاب ولد وبنت ورغم أنها حاولت إقناعه أنه حب «أخوة» لا غير، إلا أنه يصر على خلاف ذلك وأنه سيتزوجها وإلا سيموت، إلى جانبها حدثتنا المعلمة سهام، التي تتعجب مما أصاب هذا الجيل، الذي فعل به التلفزيون فعلته، وأن ما يحدث بفصلها يفوق كثيرا ما يحدث مع زميلتها، ليتجاوز في بعض الأحيان المعقول ويدعو فعلا لدق فعلا ناقوس الخطر، فالأطفال أصبحوا يسيرون وفق إملاءاته لا غير، ولو استمرت الأمور على حالها سيكون جيل منحل لا محالة، ومن أكثر ما يشد الانتباه، أن التقليد الأعمى وصل بأحد تلاميذها، أن يُقبل من يقول أنها حبيبته قُبلة غير عادية، بعد أن فاجأتهما بقسم لوحدهما، والخوف كما تقول أن تحدث أمور أخرى بدافع التقليد بعيدا عن الأعين ومن جملة ما تسرده وبعيدا عن المدرسة أنها في أحد المرات كانت ابنة أختها التي لا يتعدى عمرها تسع سنوات، تمضي عطلتها الشتوية عندهم "وبمجرد أن دق هاتفي النقال، طلبت منها الخروج، لأن خطيبي من كان على الهاتف، فردت علي وبجرأة كبيرة جدا، أعرف أنك ستكلمين «حبك» كما تقول هي، فنهرتها لكنها استرسلت في الحديث وأضافت حتى أنا عندي حبيبي «محمد» وسنتزوج وبكثير من البراءة تقول لكني أخبرته لو أغضبني سأكسر كل صحون المطبخ، الأولياء بدورهم خاصة الأمهات يعشن بكثير من القلق هذا الواقع، فالسيدة «فتيحة» موظفة وأم لأربعة أبناء أكبرهم "قصي" تقول أنه منذ مدة وجيزة، طلب منها ابنها، الذي لا يتجاوز سنه 12 سنة، أن تزوجه «سلمى»، طلب ما كان يخطر على البال، ما أدخلها في هستيريا من الضحك بعد دردشة أرادت من خلالها أن تعرف المزيد تبين أن «سلمى» زميلته في القسم، فتاة مجتهدة وذكية وهو متحابان منذ 3 أشهر وأنهما قررا الزواج، السيدة «فتيحة» لا تعير القصة أدنى اهتمام، لأنه طيش طفولة وسينسى سريعا، فلا داعي للتهويل كما تتصور بعض الأمهات وحتى كما تصور بعض وسائل الإعلام، أما السيد «حسان» ورغم حرصه على ألا يشاهد أبناؤه إلا البرامج الجادة والحصص الهادفة، فولده لم يسلم من هذه العدوى، إذ أكد لنا بأن ابنه قد تشاجر مع أخ لزميلة له بسبب علاقة عاطفية ولما واجهته أنكر، محملا المسؤولية في ما يحدث إلى التلفزيون وإلى الأولياء، ورغم أنه يجنب أبناءه ،هذه المسلسلات، إلا أن احتكاكه بغيره من التلاميذ الذين يتساهل معهم أولياءهم، ينسف كل جهوده. غياب الرقابة على ما يشاهده الأبناء سبب الداء أسباب هذا التغير في سلوكيات الأطفال وتوجههم إلى إقامة علاقات عاطفية في المؤسسات التربوية وحتى خارجها والذي يعتبر مراهقة مبكرة، يرجعه «سفيان حدود» المختص في علم النفس الاجتماعي إلى «التقليد» الذي غزا المجتمع الجزائري خلال السنوات الأخيرة، من خلال القنوات الفضائية وما تبثه من مسلسلات مليئة بالحب، والأكثر أن الطفل يجد كل أفراد الأسرة معلقة قلبوهم بها، فيتأثر من حيث لا يدري بما يقدم. ويضيف «حدود» أن السبب في ما انتشر مؤخرا يعود إلى مسببات أخرى إلى جانب تأثير التلفزيون وهي فقدان الحنان الأسري الذي يلجأ الطفل بانعدامه إلى الطرف الآخر، فالبنت تلجأ إلى الذكر لتعويض حنان الأب والولد يلجأ إلى البنت لتعويض حنان الأم المفقود. أما السبب الآخر كما يقول فهو الفشل الدراسي فيجد في هذه السلوكيات وسيلة للدفاع عن النفس ضد الوالدين، اللذين قد يكونان قد همشا هذا الطفل، فيحاول الانتقام منهما عن طريق العلاقات العاطفية، وكثيرا ما يبرز هذا الشكل عند الأطفال الذين تعرض والداهما للطلاق وعانوا من انعدام الحنان، فنجدهم في الغالب يبحثان عن الزواج المبكر وقد يقعان في فخ العلاقات العاطفية مع الطرف الآخر كوسيلة لإثبات الذات. ظاهرة تغير سلوكيات الأطفال وتوجههم نحو إقامة علاقات عاطفية قد تبدوا طريفة وتدعوا للضحك والتهكم ولا تدعوا للخوف والتهويل كما يرى بعض الأولياء، غير أن الواقع غير ذلك، فزيادة عن الفشل الدراسي، تؤكد بيانات وإحصاءات مصالح الأمن أن العديد من القضايا، تورط فيها الأطفال بسبب المراهقة المبكرة أو العلاقات العاطفية مع طرف الآخر ومن الممكن أن توصله حتى الانتحار إن كان التقليد أعمى بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، فلا حنان أسرة ولا عقل ناضج، فقط مسلسلات حب تلهبه وتسافر به بعيدا عن الواقع وقد تحطم في لحظة حياته وليس مستقبله فقط.