تزامن نشر المقابلة التي أجرتها جريدة لوموند مع الوزير الأول أحمد أويحيى مع حادثة اختطاف الدبلوماسيين من قنصلية الجزائر بغاو شمال مالي، وقد جاء تدهور الوضع هناك ليضاف إلى المخاطر الأمنية التي تواجهها الجزائر على حدودها مع الدول المجاورة التي تمر بفترة اضطراب غير مسبوقة. الموقف الذي عبر عنه أويحيى من الوضع في مالي هو موقف مبدئي للجزائر لم يتغير منذ أن بدأ الطوارق يرفعون مطالبهم في وجه الحكومة المركزية في باماكو، فقد وضع اتفاق الجزائر الذي اعتبر إنجازا دبلوماسيا كبيرا عندما تم توقيعه في الرابع من جويلية 2006 بين حكومة مالي وممثلي الطوراق، إطارا لإنهاء المواجهات المسلحة التي ظلت تعصف بشمال البلاد، وقد حرصت الجزائر من خلال وساطتها على أن يكون الاتفاق في إطار احترام دستور مالي ووحدتها الترابية، وتضمن إلى جانب إجراءات وقف المواجهات، تدابير تهدف إلى إعادة ترتيب الأوضاع في منطقة شمال مالي، من خلال إدماج مسلحي الطوارق في القوات النظامية، وتشكيل وحدات خاصة لحماية أمن مناطق الشمال ومواجهة النشاط الإرهابي، مع إطلاق مشاريع تنموية في منطقة الشمال تنهي حالة العزلة والتهميش التي يعيشها السكان الطوارق. وعندما تجددت المواجهات بين الجيش المالي ومقاتلي حركة تحرير “الأزواد” في شهر جانفي الماضي عبرت الجزائر عن قناعتها بأن اتفاق 2006 لا يزال إطارا صالحا لحل النزاع، وقد كانت باماكو الطرف المتهم بعدم الوفاء بالتزاماتها، كما أنها اتهمت بالسعي إلى ربط حركة الطوراق بالنشاط الإرهابي من أجل التنصل من واجباتها، وقبل عامين أصدر التحالف الديمقراطي من أجل التغيير في شمال مالي “تصريح الجزائر” بعد اجتماع ضم عشرين من قادة طوارق مالي، وقد تضمن التصريح دعوة للحكومة المالية لتطبيق اتفاق الجزائر، واتهم الناطق باسم التحالف حكومة مالي بلعب دور مزدوج في الحرب على الإرهاب، “حيث تمد يدها للشركاء الدوليين وفي نفس الوقت تقيم اتصالات خفية نشطة مع القاعدة في الساحل الإفريقي”، وذهب إلى حد القول “إن باماكو متواطئة مع الجماعات الإرهابية من أجل الإثراء عن طريق تقاسم أموال الفدية التي تدفعها الحكومات الغربية نظير تحرير رعاياها الذين تختطفهم تلك الجماعات الإرهابية“، وتساءل عن الأسباب الحقيقية التي تحول دون تطبيق كامل لاتفاق الجزائر، خاصة ما تعلق منه بتنصيب الوحدات الأمنية الخاصة التي نص عليها الاتفاق الجزائر لتجمع مقاتلي التحالف الذين تركوا السلاح ليعاد إدماجهم في القوات النظامية، وستكون مهمة هذه الوحدات في شمال البلاد هي ”ضمان أمن المنطقة وسكانها وحمايتها من الإرهاب والجريمة والعصابات”. نفس الاتهامات عادت إلى الواجهة مؤخرا على لسان رئيس المكتب السياسي للحركة الوطنية لتحرير الازواد، “محمود اغ أغالي” الذي قال في تصريحات لمجلة “جون أفريك“: “أؤكد انه لا علاقة لنا بالقاعدة ولسنا مهربو مخدرات ولسنا عصابات، بالنسبة لنا هي ظواهر تمس بإقليمنا، وبمساعدة باماكو، هنا هؤلاء الناس يحضون بمساعدة أشخاص لهم نفوذ كبير“. حديث أويحيى الذي نشرته لوموند يوم الجمعة ذكر بهذه المواقف حيث جاء فيه أن الجزائر “لن تقبل أبدا بالمساس بوحدة وسلامة أراضي مالي“، ودعا إلى الحوار من أجل حل الأزمة محذرا من الانزلاق نحو التدخل الأجنبي، وقد فكك الوزير الأول الوضع القائم في شمال مالي من خلال الإشارة إلى التعقيدات التي لخصها في تدهور العلاقة بين الطوارق وحكومة باماكو حيث قال: “هناك أولا مشكلة بين سكان الشمال وهم الطوارق، والسلطة المركزية في المالي مرتبطة بالتخلف وضعف دولة في التكفل بصفة كاملة بمسألة ترابها“.، غير أن الوضع ازداد تعقيدا بسبب التطورات الإقليمية الأخيرة حيث ذكر: “حذرنا من العواقب المحتملة لكل الأسلحة التي خرجت من الجارة ليبيا بعيدا عن أي رقابة، وما نعيشه اليوم في مالي هو للأسف خير دليل على ما حذرت منه الجزائر” ، وأضاف أويحيى أن “حركة أنصار الدين تصرح أنها حملت السلاح من أجل إقرار الشريعة ودولة إسلامية في مالي ، وهذا أساسا ما تعرضت له الجزائر وكافحته لأكثر من عشرية وهو ما نسميه المأساة الوطنية” وهذا “واقع ندينه“. حديث أويحيى طبعه الحرص على الفصل بين مسألتين أساسيتين وهما مشكلة الطوارق، وهي مشكلة تتعلق بالعلاقة بين شمال مالي والحكومة المركزية، ولها بعد سياسي واقتصادي، والمسألة الأخرى هي النشاط الإرهابي الذي اتخذ من شمال مالي منطلقا له، وقد فصل بين المسألتين بشكل واضح بقوله: ” إن الحركة الوطنية لتحرير الأزواد وهي حركة تحمل المطالب الدورية لسكان طوارق الشمال تم طردها من المدن التي كانت تحتلها من طرف القوات الإرهابية لجماعة أنصار الدين“، وقد تم تداول معلومات خلال الساعات الأخيرة عن مسؤولية هذه الجماعة على عملية اختطاف الفريق العامل في قنصلية الجزائر بغاو، رغم أن وزارة الخارجية الجزائرية لم تؤكد بعد هوية الجهة التي نفذت العملية. ما يميز رد فعل الجزائر على تطورات الوضع في مالي هو الاتزان ووضوح الرؤية، فقد قال أويحيى بأن “التهديد الإرهابي حقيقة نسيرها كل يوم من شمال إلى جنوب ترابنا، لكن هذا لا يعني أن الإرهاب ما زال قويا في الجزائر ولا يوجد إلا بعض البلدان القليلة جدا في العالم ليست في حالة يقظة دائمة“، فهناك من جهة الفصل بين الأزمة السياسية في مالي والتي تتعامل معها الجزائر انطلاقا من احترام وحدة التراب المالي ورفض خيار قيام دولة للطوارق الذين تدعم مطالبهم السياسية والاقتصادية وخاصة حقوقهم في تنمية شمال مالي، وفي مقابل هذا هناك عمل دائم لمواجهة الخطر الإرهابي بصرف النظر عن العنوان الذي يحمله هذا الخطر، وهذا العمل يجري في إطار التنسيق الإقليمي الذي يتجلى في اجتماع وزراء خارجية دول الميدان اليوم في نواكشوط..