قصة بقلم: محمد أبو الشمائل/ المغرب عندما تهالك الليل على مستشفى الغابة، كانت الأم قد أدت فريضة الصلاة، ثم رفعت كفيها الى السماء و الخشوع يفيض من عينيها، متضرعة إلى الله أن يحفظ ابنها الوحيد و ينقده.. تأملت ملامح وجهه المنطفئة، فلاحت لها مسوح الاستسلام وبرائة الوداع براقة، خيم عليها هاجس الموت لم يبق غير الدعاء. فاقد الوعي عندما انتشلت سيارة الإسعاف جسده الدامي المحطم ،كان قد ابتلعه دخان أسود في بطن سيارته المدعوكة بقوة.. فانتشر زعيقها المدوي في الخواء معلنا بولادة خطر. ظلت الأم ثلات أيام حزينة تجهش بالبكاء.. قابعة في غرفة الإنعاش الخافتة النور.. تنظر بعينين متورمتين إلى جسد ابنها الملقى على هذا السرير.. تتأمله بحزن كئيب. -"كنت أعرف يا بني أن علاقتك بالسياقة والطريق قد استحوذ عليها الخطأ القاتل.. كنت متنطعا لا ترضخ لقانونها الوديع.. من تسابق ؟ الريح أم الروح؟". تململت أهذاب سعيد، فتح عينيه بتثاقل شديد، استنشق هواء الغرفة الممزوج برائحة الأم الحزينة..حرك شفتيه ،كان قد خرج من غيبوبة طويلة كسرت فيه الجسد و الروح. تحلقت من حوله وجوه الأحبة و الأصحاب مستبشرة بعودة النور الى عينيه.. كان وجه الأم بارزا وقد جفت نضارته من التعب و الأرق . شعور بالأسى في داخله قد تفجر.. لا تهدأ آلام أوصاله إلا بإسعافات الحقن المسكنة.. استحوذ الخدر على بدنه.. فكر في حياته التي باعها رخيصة لشيطان العجلات؟ فات الأوان.. كان لايطيق نظرات العيون التي تلفح جسده المحنط.. أغمض عينيه حسرة فتكسرت فقاعة الصمت في داخله.. -" اللعنة على صانعي السيارات.. تصرفاتي غير المسؤولة.. تمردي على الطريق.. حماقاتي مع الشرطة.. مع المارة لا آبه لشيء، و كنت دائما أنفلت منها كالشعرة من العجين، بدون أية حكمة حتى جئت الحكمة حابيا متوسلا.. وجتمت العاهة على جسدي و قلبي في هذا المستشفى الموحش.. ألوك الساعات البطيئة.. أنتشي بألم جراحي ، عندما تتناهى إلى سمعي أصوات محركات السيارات أبلع ريقي فزعا، و ألعن نفسي التي استسلمت لشيطان العجلات؟". أشعل سعيد نور عينيه المنتشي، فتعلق بصره بالفراغ الباهت، حتى توضحت وجوه لم تعد مألوفة كما كانت، كأنه يستنجد بإنقاد بقاياه من هذا السديم السحيق. مثل ثور أعجف خرت قواه، فحومت فوقه النسور الكاسرة، منتظرة موته المفاجئ لتطفئ كبت جوعها الرهيب. جلس سعيد عند ركن في الحانة، يدخن سجائره الشقراء، ويحتسي ثمالة الكؤوس وحيدا في هدوء،جالت عيناه في الفضاء، ثم أسند رأسه إلى الجدار في انتشاء لذيذ، استنشق عميقا من سيجارته، أخد يحملق في سقف الحانة.. رن الهاتف في جيبه، انبتق بريق عينيه فجأة(...). مصمص شفتيه في غضب.. تحامل جسده متتاقلا، خرج من الحانة مترنحا..انطلق في سيارته مثل السهم، يجوب شرايين المدينة النائمة في سرعة جنونية.. مال تجاه الطريق السيار، حدج في المرآة العاكسة.. الطريق معتم و فارغ.. يدخن بشراهة وعيناه جاحظتان.. السيارة تصرخ في هياج.. دخان السيجارة لا يجد فجوة ينفذ منها، الظلام يلتهم السيارة..، دوي انفجار عنيف.. كانت عجلت أمامية.. فقد توازنه، حادت السيارة عن الطريق.. اصطدمت بشجرة ضخمة ، كان عناقا قويا. حلق فوق السيارة شبح الموت حادا كنصل السيف.. أشرقت الأم الحزينة بدموعها، بكت بحرقة لحال ابنها، عندها حطت النسور، وزحف السديم إلى جسده المحنط في عنفوان ولفه في ثوب أسود . * شارك: * Email * Print