بأغلبية ساحقة لا غبار عليها فاز عبد الرزاق مقري برئاسة حركة مجتمع السلم، وجاء فارق أكثر من مائة صوت بينه وبين أقرب منافسيه ليؤكد جنوح الحركة وأغلبية قياداتها إلى خيار المعارضة الذي من تبحث من خلاله حمس عن هويتها المفقودة متلمسة طريقا جديدا على الساحة السياسية بعد تجربة المشاركة. عبد الرزاق مقري في سنة 2013 يلعب دور أبو جرة سلطاني سنة 2002 عندما كان الشيخ المؤسس الراحل محفوظ نحناح يقود الحزب الإسلامي الموصوف بالاعتدال، ففي تلك الفترة بدأت عقد الأزمة الأمنية والسياسية في التفكك، ووفر الحد الأدنى من الاستقرار فرصة لطرح الأسئلة حول جدوى السير على طريق الموالاة. في أحد الاجتماعات الساخنة التي عقدها مجلس شورى الحركة بعد الانتخابات التشريعية لسنة 2002، توجه الشيخ نحناح إلى الأعضاء القياديين، الذين اعتبرهم دوما اتباعا ومريدين، ونصحهم بالكف عن إشعال معارك في الصحافة، وكان المعني بالكلام هو أبو جرة سلطاني الذي عبر، في حديث نشرته يومية وطنية في ذلك اليوم ، عن سخطه لبقاء حمس في حكومة أصبحت خليدة تومي ناطقا باسمها، وقد كانت دعوته صريحة للانسحاب من الحكومة التي بدأت حمس المشاركة فيها منذ قدوم الرئيس بوتفليقة إلى السلطة ثلاث سنوات قبل ذلك، وبدت تصريحات سلطاني وكأنها إعلان بداية انشقاق في الحركة، وأصبح الحديث عن الجناح المتشدد أو المحافظ في الحركة بقيادة سلطاني أمرا شائعا في الصحافة، غير أن حضور نحناح حفظ للحركة تماسكها. وفاة الشيخ المؤسس جاءت بسلطاني إلى رئاسة الحركة، وبمجرد توليه لمهمة قيادة الحركة سار الرجل على نهج نحناح، وذهب بحمس بعيدا في سياسة المشاركة، وقد جاءت انتخابات الرئاسة في سنة 2004 لتجعل من حمس حليفا لجبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي في إطار ما عرف بالتحالف الرئاسي، وتعمقت المشاركة في الحكومة، وتحولت الحركة إلى موقع الدفاع عن السياسات الحكومية رغم حرص قيادتها على التمييز بين المشاركة في الحكومة والمشاركة في الحكم. في فترة المشاركة هذه سطع نجم عبد الرزاق مقري كقائد للجناح الأكثر صلابة في الحركة، وقد جاءت مواقفه متطابقة مع ما كان يتبناه سلطاني في عهد نحناح، وقد اضطرت القيادة في أكثر من مرة إلى القول بأن مقري يعبر عن رأيه الشخصي رفعا للحرج وتبريرا للتناقض بين مواقف الرجل ومواقف حزبه، غير أن أهم ما سجل على مقري هو التزامه بالاستمرار في الحركة، وعلى عكس عبد المجيد مناصرة الذي اختار أن ينشق ويؤسس جبهة التغيير لاعتقاده بأن حمس انحرفت عن خط نحناح، وعمار غول الذي خرج ليؤسس التجمع من أجل الجزائر بعد أن اقتنع بأن حمس أصبحت تعارض أكثر مما يجب، فإن مقري فضل المعارضة من الداخل، وحرص على أن يدعو إلى مواقف أكثر تشددا تجاه السلطة وأن تتحول الحركة إلى الصف الآخر. قرار حمس بالانسحاب من التحالف الرئاسي في مطلع سنة 2012 كان تحولا كبيرا في مسار الحركة، فقد كان بمثابة زلزال قوي ضرب الحركة لم تتأخر نتائجه في الظهور، فالقيادات التي كانت مع خيار المشاركة، ومثلها الوزراء تحديدا، رفضت التحول إلى المعارضة، في حين دفع تيار آخر، كان مقري من أبرز وجوهه، نحو القطيعة مع الشكل التقليدي للمشاركة في السلطة على الأقل، وكان على الفريقين الاحتكام إلى الانتخابات التشريعية أولا والمحلية لاحقا، وجاءت النتائج في غير صالح سلطاني وأنصاره. الأثر الأول كان حدوث الانشقاق الثاني في الحركة بخروج عمار غول، وهو أبرز الوجوه التي تمت المراهنة عليها في الانتخابات التشريعية، وكانت تلك ضربة موجعة، لكن الأسوأ من ذلك كانت نتائج الانتخابات والتي أثبتت أن خيار التحالف مع بعض الأحزاب الإسلامية لم يدرس بشكل كاف، بل إنه لأول مرة عبرت قواعد حمس عن امتعاضها من خيارات القيادة معتبرة أن التحالف مع أحزاب ضعيفة جعل حمس تخسر كثيرا من المقاعد، وبسرعة بدأت المطالبة برحيل سلطاني الذي أذعن دون مقاومة تذكر بعد أن حصل على تأجيل إلى غاية انعقاد مؤتمر الحركة لترتيب انتقال سلس للسلطة يضمن الحفاظ على الحد الأدنى من تماسكها بعد الضربات الموجعة التي تلقتها. انتخاب مقري رئيسا لحمس يعكس آمال القيادة في استعادة مصداقية الحركة التي تضررت بسبب مواقف متناقضة وتغير غير مفهوم في المواقف، واستعادة المصداقية تكون لدى القواعد أولا، فمقري يجري تقديمه على أنه المعارض الذي يمكن أن يعيد بناء سمعة حمس كحزب معارض بعد أن فقد هذه الصفة بسبب عقدين من المشاركة في السلطة بأشكال مختلفة، وهذه الرسالة تعني قواعد الأحزاب الإسلامية عموما، فحمس تريد أن تقود تحالفا إسلاميا معارضا، ومقري قد يكون أكثر إقناعا من القيادات التي سايرت سلطاني وناصرته، وأكثر من هذا فإنه قد ينجح في إقناع عبد المجيد مناصرة، وبدرجة أقل احتمالا، عمار غول بالعودة إلى الحركة، وهو هدف لم تسقطه حمس من حساباتها رغم صعوبة المهمة. في مقابل هذا لا يبدو أن مقري سيكون رجل القطيعة النهائية مع السلطة، فمساره الذي يشبه إلى حد كبير مسار سلفه، قد يدفع به إلى اتخاذ مواقف أكثر اعتدالا خلال الأيام المقبلة لإدراكه بأن مسؤولياته الجديدة لا تترك له هامشا أوسع للتعبير عن آرائه الشخصية وقناعاته بالحرية التي تعود عليها، وسيضاف إلى هذا إدراكه لطبيعة التوازنات القائمة في الداخل وعلى المستوى الدولي، والتي تجعل من مسألة التغيير في الجزائر خاضعة لعوامل معقدة تتجاوز تلك الإسقاطات التبسيطية للوضع القائم في المحيط الإقليمي على الداخل، ومن هنا لن يكون مستغربا أن تعيد ترتيب الحركة أوراقها من أجل استعادة موقعها على الساحة السياسية كطرف يحاول أن يفرض نفسه في أي عملية تحول محتملة في المرحلة المقبلة، ولن يتم ذلك من موقع المعارضة التي لن تكون أكثر من ورقة ضغط في مفاوضات غير معلنة على دور حمس في المرحلة المقبلة.