لم يصدر عن قمة مجموعة الثماني التي انعقدت في إيرلندا الشمالية ما يدين النظام السوري أو ما يجعل رحيل الرئيس الأسد شرطا ضروريا للتوصل إلى حل سياسي ينهي الأزمة الدموية التي مر على اندلاعها أكثر من عامين، بل إن التأكيد على مخاطر انتشار الإرهاب والتطرف توحي بأن العمل العسكري لم يعد الخيار الأفضل. صحيح أن الخلافات بين روسيا والدول الغربية كانت تهدد التوافق حول موقف من جانب مجموعة الثماني بخصوص سوريا، غير أن هذا التفصيل لم يكن السبب الأهم الذي حال دون صدور بيان يدين بوضوح النظام السوري أو يشدد على ضرورة رحيل الأسد قبل التوصل إلى أي اتفاق سياسي، فالغرب لم يكتف باستبعاد القضايا الخلافية بل ذهب إلى حد التأكيد أنه لا مناص من عقد مؤتمر جنيف 2 بعد أيام قليلة من تصريحات سابقة توحي بأن المؤتمر أصبح مجرد ورقة سياسية يجري استعمالها للضغط على دمشق. فرنسا التي ظلت منذ أيام تضع الشروط لعقد جنيف 2 صمتت فجأة، فلم يعد هناك مجال للقول بأن استمرار زحف الجيش السوري في اتجاه حلب سيؤدي إلى مقاطعة المعارضة للمؤتمر، وأمريكا التي كانت تعتبر تدخل حزب الله في الأزمة السورية يمكن أن يرهن حظوظ عقد المؤتمر، تقول إنه يجب عقد المؤتمر، هكذا ودون شروط، في أقرب وقت ممكن، وحتى اتهاماتها للنظام السوري باستعمال السلاح الكيميائي لم يدرج ضمن البيان الختامي لقمة الكبار، بل ورد في البيان تنديد باستعمال هذا السلاح دون تحديد الطرف المسؤول، وهو ما يعني الأخذ بوجهة النظر الرسمية السورية التي تتهم المعارضة باستعمال غاز السارين، كما أن الأمر يتعلق باعتراف ضمني بضعف الأدلة التي يدعي الفرنسيون والأمريكيون امتلاكها والتي تدين النظام السوري باستعمال محدود للأسلحة الكيميائية، وقد وصف الروس تلك الأدلة بأنها مجرد "ادعاءات بلا براهين"، وهم لا يرون جدوى إجراء مزيد من المباحثات مع الأمريكيين بخصوص هذا الموضوع. شرط رحيل الأسد أسقط من البيان لأن الروس اعتبروه إخلالا بموازين القوى السياسية، وهذا يعني أن اللعبة أًصبحت مكشوفة، فعلى الأرض حقق الجيش السوري التقدم المطلوب الذي يجعل الحكومة السورية تفرض نفسها كلاعب أساسي في صياغة الحل، والتوازنات السياسية التي تحدث عنها نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف هي انعكاس مباشر للتوازنات العسكرية التي أعادت رسمها سيطرة الجيش السوري على القصير وزحفه على معاقل المعارضة في أكثر من موقع. البيان الصادر عن مجموعة الثماني أكد استمرار التجاذبات الدولية حول سوريا، غير أن نقطة بارزة قفزت إلى الواجهة، فقد جرى التعبير عن القلق من "الخطر المتنامي للإرهاب والتطرف في سوريا"، والأسف للطابع "الطائفي" الذي بات يطغى بصورة أكبر على النزاع، وهذا الاعتراف هو تأكيد لحالة الارتياب في توجهات الجماعات المسلحة التي تقاتل النظام القائم في سوريا، ويبدو أن الغرب متجه إلى الإجماع على رفض سيطرة هذه المجموعات على الوضع في حال سقوط النظام، ومن هنا يمكن فهم التقدم الذي حققه الجيش السوري على الأرض أيضا، فقد رفضت القوى الغربية إمداد المعارضة السورية بالسلاح لأنها كانت موقنة بأن الأسلحة ستصل إلى مقاتلين متشددين ينتمون إلى تنظيمات تصنف بأنها إرهابية وأنها تمثل فروعا لتنظيم القاعدة كما هو الحال بالنسبة لجبهة النصرة. في مقابل هذا تحاول الدول الغربية التوصل إلى صيغة لدعم المعارضة بالسلاح من أجل إحداث التوازن العسكري قبل انعقاد جنيف 2، غير أن هواجس أخرى باتت تؤرق الجميع، فالمناورات العسكرية التي جرت في الأردن تشكل رسالة واضحة إلى دمشق تفيد بأن احتمال التدخل العسكري لا يزال قائما، غير أن هذا الخيار محفوف بالمخاطر. سقوط النظام السوري أصبح الآن مرتبطا بخلخلة قوية في المنطقة، فالنظام الأردني يبدو في وضعية شديدة التعقيد، والمناورات التي جرت مؤخرا هناك ربما تهدف إلى ردع الأطراف الإقليمية ومحاولة تأكيد الالتزام بحماية المملكة الهاشمية، لكن الذهاب إلى أبعد من هذا بالتدخل مباشرة في سوريا سيضع هذا النظام أمام امتحان البقاء، وسواء تعلق الأمر بتركيبة المجتمع الأردني، أو بالتوازنات السياسية الهشة داخله، فإن هذا النظام الذي ظل معتمدا على الحماية الخارجية قد يسقط بسبب الأزمة السورية، وهو ما سيفتح أبواب الجحيم على أمريكا وإسرائيل. من هنا يبدو التوصل إلى حل سياسي الخيار الوحيد أمام جميع الأطراف، ومعالم هذا الحل السياسي بدأت تتضح منذ مدة وهي تقوم في الأساس على الحفاظ على الدولة السورية ككيان موحد، والحفاظ على الجيش السوري أيضا كضامن لاستمرار هذا الكيان، وتحقيق هذا الهدف الأساسي يمر أولا عبر إشراك عناصر من النظام الحالي في إدارة الفترة الانتقالية، ولعل الموقف الغربي السلبي من قانون العزل السياسي في ليبيا يشير إلى الرغبة في منع تكرار التجربة العراقية حيث تحول قانون اجتثاث البعث إلى أحد أسباب الفشل في استعادة الاستقرار السياسي والأمني، وفي الحالة السورية بدأ الاستعداد لمواجهة هذه الاحتمالات حتى قبل بدأ العملية التفاوضية، وهو ما يعني أن الغرب لا يريد تغييرا جذريا في الأوضاع، أو ربما هو لا يستطيع تحقيق ذلك بسبب استماتة الروس في الدفاع عن مواقعهم في منطقة شرق المتوسط التي ألحق أمنها بالأمن القومي الروسي. هذا التطورات أصبحت تتيح الفرصة لقراءة الوجهة التي قد تأخذها سوريا في المرحلة القادمة، وكل المؤشرات تقول بأن الهدف الأساسي لمحاولة إسقاط النظام السوري أصبح الآن بعيد المنال، فالدور الروسي جاد على عكس ما جرى في ليبيا، وموسكو لن تقبل بقيام نظام تسيطر عليه أطياف المعارضة الحالية لأنه ببساطة سيكون نظاما معاديا لها، وخلال السنتين الماضيتين حملت هذه المعارضة التي تعمل وفق الإملاءات الأمريكية والغربية، روسيا مسؤولية استمرار النظام، واعتبرتها طرفا مباشرا في المعركة الجارية على الأرض، وهذه المواقف التي تزيد من إصرار موسكو على منع وصول آثار التغيير في سوريا إلى حدود إنهاء الوجود الروسي في هذه المنطقة الحيوية.