في أحد أيام العام 1980، أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، قُتلت عائلة "ديجول عيد" أمام عينيه. الجريمة الفظيعة، التي شهدت مثلها مئات آلاف العائلات أثناء سنوات الحرب الأهلية ال 15، ترسّبت في عقل الطفل الذي رأى القاتل وحفظ صورته بداخله. بعد 10 سنوات من ذلك، هاجر عيد إلى فرنسا كي يدرس السينما. وفي 2007، وثّق مأساته العائلية في فيلم "شو صار؟". أثناء تصوير أحد المشاهد، يصطدم عيد بالقاتل. لا يتشوّش عيد، ويسأله: "أتذكرني؟"، القاتل لن يتعرّف بالطبع على طفل في العاشرة. "أنت قتلت أمي"، يقول له عيد. ذكريات الحرب الأهلية موضوع حساس للغاية في لبنان. للذكريات طابع فتاك، فهي من شأنها في كل لحظة أن تعود لتنكأ الجراح التي لم تندمل بعد. وفي تاريخ السينما العربية، يحتل الإنتاج السينمائي المتعلق بالحرب اللبنانية والمسمّى اختصارًا "سينما الحرب" مكانة أساسية؛ إذ من المعروف أن ولادة هذه السينما مع اندلاع الحرب في لبنان كانت إيذانًا بولادة ما للسينما اللبنانية نفسها. وفي حروب القرن ال20، لقي ما لا يقل عن 43 مليونًا من العسكريين حتفهم وأكثر من ذلك العدد من المدنيين؛ حيث تشير المصادر التاريخية إلى سقوط ما يقارب 52 مليونًا من المدنيين. بالإضافة إلى ذلك، فإن العديد من الناجين من الحروب هم بطريقة ما خسائر صامتة جراء الصراعات العسكرية؛ بحملهم الكثير من آلام وأحزان الخسارة لسنوات طويلة. وربما يحاولون الحفاظ على العنف الذي شهدوه مختبئًا بداخلهم، خوفًا من التعاطي مع الماضي وجروحه الجسدية والنفسية. لكن، تظل الصراعات الأهلية هي الأصعب للغاية بالنسبة للناجين الذين يشاهدون انهيار الحضارة الإنسانية والانزلاق السريع والخطير نحو عنف يغذّيه الخوف والطمع وجنون العظمة، وثمة اتفاق عام على أن الحروب الأهلية تحقق أعلى معدلات الجرائم الجماعية بحق البشرية، والسينما عندما تنتهي حرب أهلية في مكان ما من العالم تجد فيها موادًا لإنتاج أفلام عن تلك الحرب وتصوير بشاعتها ومدى الجرائم التي ارتكبت فيها وآثارها اللاحقة على المجتمع الذي وقعت فيه، وما أكثر الأمثلة في عالمنا الموعود بالقادة الدمويين.ولأن الحروب واحدة؛ يعرض لكم "التقرير" ثلاثة أفلام، ليست عربية، تناولت الحروب الأهلية حول العالم. الفيلم الذي تم إنجازه تحت حكم العسكر، يحكي براديكالية لا تنقصها العاطفة متاهة السياسة اليونانية حول مأساة الحرب الأهلية من خلال أعضاء فرقة مسرحية جوّالة تجوب اليونان لتعرض مسرحية من أواخر القرن ال 19 بعنوان "غولفو الراعية". تدور الأحداث بين عامي 1939 و1952: تاريخان يرقمان ذكرى بدء الحرب العالمية الثانية، وإقامة الانتخابات الرئاسية التي مهّدت لانتهاء الحرب الأهلية اليونانية ورسّخت حكم العسكر الديكتاتوري في البلاد. وتُرى كسلسلة من الأحداث الفردية غالبًا ما يتعذّر تفسيرها، مذيّلة بمونولوجات وأغانٍ وشعارات كتبت على الجدران. يكشف الفيلم تلك الفترة المضطربة بالتركيز على الممثلين الذين قضوا تلك السنوات ال 14 في التجوال على مقاطعات ومدن وقرى اليونان، يؤدون في ظروف رثة على نحو متزايد ميلودراما لم يتمكنّوا يومًا من عرضها كاملة، بينما بقي الخروف الساكن المرسوم على ظهر ملابسهم محدقًا في أجيال سُفكت دماؤها وعاينت الدمار. هذه المجموعة الحزينة والرثة، والجائعة أحيانًا، تقوم علاقتهم على روابط عائلية تعود لبيت أتريوس "House of Atreus" وتتنوع ميولهم السياسية بين المتعاون مع النازية "Aegisthus" والانتهازي "Chrysothemis" والقومي اليوناني "Agamemnon" والرافض للسياسة "Clytemnestra" واليساري المثالي "Electra" والشيوعي المقاتل "Orestes". يملؤون أدوار أمثالهم الأسطوريين من القائد الهائم، الزوجة الخائنة، الابن الخائن أو المنتقم. وفي تجوالهم وقت الحرب بتناقضاتها، فإنهم يبدؤون بطريقة غير واعية في إعادة تمثيل دورة أسخيلوس "Aeschylus" المأساوية كما حفظتها الميثولوجيا اليونانية. يعطي المخرج ثيو أنجيلوبولوس أبعادًا أسطورية لفيلمه ومن دون التنازل للسرد السينمائي التقليدي، يقدّم رؤية ملحمية للتاريخ اليوناني باستخدامه لمحاولات الفرقة الجوّالة لعرض المسرحية كورقة للعبور إلى الاحتلال النازي وتداعياته، الحرب الأهلية بين الملكيين والماركسيين التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وخطر الاستبداد السياسي بشكل عام. هناك تأثيرات ماركسية وفرويدية وبريختية واضحة في الفيلم ولكن أنجيلوبولوس ينجزها بأسلوبه المعتاد الذي سيطوّره على مدار مسيرته اللاحقة: لقطات طويلة وتجنّب شبه تام للقطات المقرّبة Close-up لصالح تحريك الكاميرا خلال سلسلة الرقصات الموحية بحيث يصبح الحدث في الأنحاء بدلًا من تصدّره الصورة، إبقاء مشاهد "الزمن الضعيف" التي تقع بين الحدث والآخر وفاءً لفكرة "الصورة الكبيرة" وتجنبًا للتقطيع. يقدّم فيلمًا مربكًا وباردًا، أكثر منه عاطفيًا ورومانتيكيًا، وتمامًا مثل "بريخت Brecht"، حيث الهدف ليس تماهي الجمهور مع الحدث بل خلق وعي ذاتي بالجدل الدائر، فإن أنجيلوبولوس لا يهدأ في محاولته لتصوير تلك الدوامة التاريخية التي تتطلّب الانتباه. عندما يبدأ الفيلم مع بطلته ذات ال 12 عامًا التي يتم تسليمها بندقية لقتل والديها، يمكنك أن تكون على ثقة من أن الدقائق ال 90 التالية لن تكون سهلة المشاهدة. هذا هو الحال مع فيلم الكاتب والمخرج الكندي كيم نجوين "Kim Nguyen" الذي يحكي قصة كومونا "Rachel Mwanza"، فتاة صغيرة تُختطف من قبل المتمردين ويتم تحويلها إلى "طفلة مقاتلة" في مكان غير مسمى من صحراء إفريقيا الجنوبية الكبرى. الفيلم يؤكد على أنه من وحي الخيال، ولكن هناك ذلك الشعور المزعج بأن قصصًا كهذه قد حدثت ولا تزال تحدث في هذا العالم الذي يغرس "ساحرة الحرب" في واقعية مؤلمة لا مفرّ منها. نجوين، الذي أمضى ما يقرب من عقد من الزمان في البحث لأجل تلك الوثيقة الدرامية عن الجنود الأطفال في إفريقيا، ينجز ذلك العمل المؤلم عن شجاعة مذهلة لفتاة إفريقية في محاولتها النجاة من كابوس تلو الآخر في سبيل الحفاظ على ما تبقى من إنسانيتها. فخلال العقدين الأخيرين، تم إختطاف أكثر من 30 ألف طفل إفريقي من عائلاتهم والزجّ بهم في حرب عصابات مهلكة تنتهك آدميتهم، ويضطر فيها الأطفال لقتل المدنيين الأبرياء واغتصاب النساء والفتيات الصغيرات بل وحتى تشويه المارة العابرين. يقول أحد الأطفال الجنود: "هذه الحرب أحدثت ثقبًا في روحي وغيّرتني إلى الأبد". لكن، في حين أن الفيلم هو بالتأكيد بورتريه قوي -ومروع في بعض الأحيان- عن الظلم، فإنه ليس ثقيل الوطأة على طول الخط، ولكن ثقله الشعوري يتأتى بمهارة وحساسية. نجوين يملك متعاونين رائعين: موانزا بأدائها الرقيق والمعقد، توجّه الجمهور من مجرد مصمصة شفاه الشفقة إلى التعاطف الكامل مع مأساتها، والمصور السينمائي الفرنسي نيكولا بولدوك Nicolas Bolduc الذي يخلق لحظات من الجمال وسط وحشية الأحداث (على طريقة تيرانس ماليك Terrence Malick)، تضمن للفيلم انتباه العين بقدر القلب. في الحروب التي دارت في يوغوسلافيا السابقة خلال التسعينيات قُتل أكثر من 100 ألف شخص، تم دفن الكثير منهم في مقابر جماعية قبل أن تسنح لعائلاتهم فرصة التعرّف عليهم. وتقول تقارير الأممالمتحدة أن نحو 20 ألف امرأة تعرضت للاغتصاب بشكل ممنهج في البوسنة. الكاتبة والمخرجة ياسميلا زبانيتش JasmilaZbanic صنعت فيلمًا عاطفيًا ومؤثرًا عن امرأة تعيش في سراييفو وتناضل مع كوابيس وأسرار هذه الحرب. يطارد الماضي الحاضر في هذه الدراما التي حملت عنوان غرابافيتشا، إحدى ضواحي العاصمة البوسنية سراييفو، التي شهدت أثناء الحرب الأهلية وقائع تعذيب بحق البوسنيين؛ حيث كانت أحد معاقل التعذيب والاغتصاب الصربية سيئة السمعة. قوة الدراما تأتي من تصوير آثار الحرب العرقية على أرواح وأجسام وعقول من تمكنوا من البقاء على قيد الحياة، والذين لم يعودوا أبدًا كما في السابق. يعود الفيلم بعد 10 سنوات من انتهاء الحرب ليحكي قصة "إسما" (ماريانا كارانوفيتش Mirjana Karanovic) امرأة صلبة في منتصف عمرها وابنتها المتمردة "سارة" ذات ال 12 عامًا المتحمسة للذهاب في رحلة مدرسية مرتقبة. كلفة الرحلة 200 يورو، والابنة تعلم من أحد مدرسيها أن بامكانها الذهاب مجانًا لأن والدها كان أحد شهداء الحرب، ولكن يجب إحضار شهادة رسمية تثبت ذلك. حين تخبر سارة أمها بذلك، تحجم الأم عن إعطائها الوثيقة المطلوبة وتصرّ على دفع مصاريف الرحلة، هي التي تقوم بعمل نهاري في مصنع للأحذية وعمل ليلي كنادلة في أحد النوادي الليلية. لماذا؟ يتحدّانا الفيلم أن ننسى أن رياح الحرب تبقى طويلًا بعد انقضاء المعارك وصمت القنابل؛ فذكريات الناجين تحمل آلافًا من بذور المعاناة والألم. "إسما" تكشف بعض أسرارها في جدال عنيف مع ابنتها ينتهي بصدمة الاثنتين، ولكننا نعرف أن محبتهما وحاجتهما إلى بعضهما البعض ستحملهما إلى مستقبل أفضل. باقتصاد حكائي وحسّاس كذلك، تؤسس زبانيتش فيلمها -الحائز على دب "برلين" الذهبي- على سلسلة من التفاعلات والمواقف البسيطة، بما في ذلك الصداقة الطيبة بين "إسما" و"بيلدا"، حارس النادي الليلي وأحد الناجين من الحرب، الذي ترك دراسته الجامعية ويقوم بزيارات منتظمة للمقابر أملًا في العثور على رفات والده الذي فقد في القتال والذي يتفكّر "إذا تذكرت كل شيء، كنت سأقتل نفسي". ومع الأداء التمثيلي الجيد، ترسم المخرجة صورة كاشفة لمجتمع يكافح من أجل الاستمرار في حياة "عادية" والتعامل مع إرث معاناته المؤلمة.