لم يعد هناك شك في القول إن عصرنا الحاضر هو عصر الإعلام، ليس لأن الإعلام ظاهرة جديدة في تاريخ البشرية بل لأن وسائله الحديثة قد بلغت غايات بعيدة في عمق الأثر وقوة التوجيه، وشدة الخطورة، فقد تعددت وسائل الإعلام في عصرنا الحاضر، وتنوعت طرق تبليغها للناس، وتطورت أساليب استخدامها لدرجة مذهلة، ألغت حاجز الزمان والمكان... وما من شك في أن وسائل الإعلام تؤثر تأثيرًا خطيرًا في نفوس الناس وأعمالهم، ولا جدال أن هذه الوسائل لها خطرها الكبير في تكوين الاتجاهات والمعتقدات. ونستطيع أن نقرر أن المجتمع الإنساني لا يستطيع الحياة دون اتصال، كما أن الاتصال لا يمكن أن يحدث إلا من خلال نسق اجتماعي، وفي ضوء تعاظم دور وسائل الإعلام يذهب البعض إلى أن التغير الثقافي ما هو إلا ثمرة من ثمرات وسائل الإعلام، ولا نريد التحدث في هذا المقال عن كيفية تأثير وسائل الإعلام ولا عن أساليب التأثير وأنواعه ونظرياته، لأن هذه القضايا هي أكثر المسائل التي شغلت علماء الاتصال والباحثين في حقل الاتصال الجماهيري، خصوصًا مسألة العلاقة بين وسائل الإعلام وجمهورها. ومع الاختلافات الكثيرة بين الباحثين في هذا المجال إلا أن هناك إجماعاً على أن وسائل الإعلام تؤثر، لكن إلى أي حد؟ ومتى؟ وفي أي الظروف؟ وبأية كيفية؟ فهذا الذي لم يجتمع عليه الباحثون لأن كلاً منهم يجيب على هذه الاستفسارات من زاوية معينة وفي ظروف محددة، لذلك اختلفت وتباينت؟ والواقع أن تحديد التغير الثقافي أو ما نسميه بالتأثير الثقافي والحضاري لدى مواطن العالم الثالث من قبل وسائل الإعلام الأجنبية الوافدة بالنسبة للفكر مهمة صعبة. ليس من اليسير تحديدها تحديدًا قاطعًا بفواصل زمنية محددة. وتأتي الصعوبة في أنها مرحلة لنتاج تراكمي للأفكار من خلال فعاليات إنسانية، لابد وأن تكون قد مرت بمراحل طويلة من الصقل والتهذيب، لكي تبلغ مرتبة النضج المرحلي في تاريخ الفكر، ولكن نستطيع أن نقرر بأن أفراد المجتمع الإنساني هم هدف الوسيلة الإعلامية لإيصال الرسالة المطلوبة إليهم، فكيف يستجيب هؤلاء الأفراد للرسالة الإعلامية؟ إن هؤلاء الأفراد يعيشون في مجتمعات ذات تركيب اجتماعي معين، ومؤسسات اجتماعية مختلفة تفرض أنماطاً معينة من أنماط الفكر والسلوك، فهي في الواقع تشكل الأرضية الثقافية التي تتبلور فيها أخلاقيات الفرد وعاداته وعقائده وميوله واتجاهاته ورغباته وأنماطه السلوكية المختلفة، فالتنشئة الاجتماعية والأسرة والبيت والمدرسة والمؤسسات الدينية، تشكل في الواقع المؤثرات الثقافية التي تشكل شخصية الفرد، ولا شك أن هذا التكوين الثقافي للأفراد المرتبط بكل هذه المكونات أثره في ثبات شخصيته وثقافته، كما أن مقدار ثبات هذا التكوين الثقافي واستقراره في شخصية الفرد يكون عاملاً مؤثرًا في التأثير بالرسائل الإعلامية إيجابًا أو سلبًا، لذا فإن ضعف تكوين الأفراد وضعف بنائهم الذاتي المتمثل في عدم تعمق مكونات ثقافتهم في شخصياتهم عامل هام يسبب تأثرهم بالمضامين الثقافية المختلفة عن ثقافتهم الأصلية، وترتفع نسبة هذه الفئة ضعاف التكوين في الأميين والأطفال والمراهقين ومحدودي الثقافة الأصلية لمجتمعهم وقيمهم، مما يجعلهم أكثر عرضة لمجالات الغزو الثقافي عبر وسائل الإعلام التي تحمل مضامين مخالفة لثقافتهم. خاصة إذا أدركنا أن ثقافة هؤلاء المحدودة تحول بينهم وبين معرفة عناصر القوة في ثقافتهم المحلية، فيشعرون أنها لم تعد قادرة على تلبية حاجتهم في الحياة، فيصبحون أكثر ميلاً واستعدادًا للتغير الثقافي أو بالأحرى التأثير الثقافي، إن الجانب الحضاري أو الثقافي هو الدافع الذي يقف خلف حماس كثير من الدول الأوربية لفرض لغاتها القومية وقيمها الثقافية، ولا شك أن ثقافة أي بلد هي هويته الوطنية التي لا يجوز لأي كان ولأي سبب أن يقوم بتشويهها أو تطعيمها بثقافات هجينة غير ذات مستوى، فهل يحق لنا في مثل هذا الوضع الذي نعيشه أن نغفل أهمية البعد الثقافي والحضاري الذي ينبغي أن تكسبه برامجنا الوطنية، والذي لا يتحقق بدون تأكيد الألفة الحميمة بين المشاهد وبرامجه. لقد لوحظ أن أجهزة الإعلام الدولي في الوقت الحالي تعكس القيم والمثل السائدة في مجتمعات معينة، وأن الدول المسيطرة تقوم بدور الرقيب بالنسبة للإعلام في الدول النامية، وهناك إجماع بين أبرز كتاب التبعية في المجال الإعلامي على تشخيص جوهر التبعية الإعلامية الثقافية في العالم الثالث وإرجاعها إلى عوامل تاريخية تتعلق بالسيطرة الاستعمارية الغربية مضافًا إليها المحاولات الدائبة التي تقوم بها الولاياتالمتحدة في المرحلة المعاصرة للسيطرة على ثقافات العالم الثالث، وإخضاعها لصالح السوق الرأسمالي العالمي، وتستعين في تحقيق ذلك بقدراتها الإعلامية الضخمة من خلال وكالات الأنباء الغربية والأقمار الصناعية، علاوة على إمكانياتها الهائلة في مجال تكنولوجيا وسائل الاتصال والنشاط الأخطبوطي للشركات المتعددة الجنسية ووكالات الإعلان الدولية. ثم إن ثمة موضوعاً هاماً جدًا يجب التطرق إليه حين البحث عن أسباب التغير الثقافي نتيجة التعرض لوسائل الإعلام الدولي وهو معرفة الخصائص أو سمات الشخصية أو الشخصية الجماهيرية لشعوب الدول النامية وما يميز هذه الشخصية من نزعات وسمات والإلمام بحقيقة الدراسات النفسية والاجتماعية لمعرفة طبيعة الجمهور والتعامل معه وفق تلك النتائج، وكذلك معرفة المداخل النفسية التي تصل الرسالة من خلالها وفي سياق منهجي يتفق مع الحالة المزاجية التي يعيشها الأفراد مما يجعل تلك الرسائل تجمع الحقائق العلمية وتقدمها في قوالب عاطفية وجدانية تخاطب الشعور، وما يلاحظ من قوة الوسائل الإعلامية الوافدة، ليس نتيجة لقوة الوسائل التي تعرض فيها تلك البرامج فقط، ولكنه يعتمد بشكل مباشر وكبير على الدراسات الاجتماعية التي حددت من خلالها طبيعة الجمهور والخصائص التي يتميز بها. فالظروف المحيطة ونفسية المستقبل وطريقة تربيته ودرجة ثقافته تؤثر تأثيرًا كبيرًا على مدى تقبل الرسالة الإعلامية أو رفضها. كما أن هناك قضية أهم وأخطر مما سبق، نوجزها بمقولة «جوبلز» وزير الرعاية في ألمانيا النازية، بقوله"الأول في طرح الفكرة هو صاحب الكلمة العليا دائمًا" وكأن «جوبلز» يقصد من ذلك أن الفكرة الأولى عن المسائل التي لا يعرفها الناس تصادف منهم تقبلاً وتأييدًا، وقد تتأصل هذه الفكرة وتشق لها جذورًا في نفوس الجماهير بحيث يستعصي استئصالها بعد ذلك، فعملية التغيير عبر وسائل الإعلام تصبح أكثر سهولة إذا كانت الموضوعات المطروحة جديدة على الجمهور، إذ أن خلو ذهن المتلقي للرسالة الإعلامية عن موضوع ما يجعله أكثر شغفًا وإقناعًا به، وفي هذا تنويه بأهمية الزمن في مجال الإعلام، ولقد أثبتت بحوث علم النفس الاجتماعي أن الإقناع بالرأي بالنسبة لموضوع يعرض لأول مرة أمر ميسور، كما وجد مثلاً أن الأطفال الذين لا يعرفون شيئًا كثيرًا عن التمييز العنصري في بلاد الغرب يتأثرون بأفلام التسامح وعلى العكس من ذلك نجد أن مثل هذه الأفلام قد تحدث استجابات معاكسه عندما يكون المشاهدون من المتعصبين للتمييز العنصري، إذ يزدادون تعصبًا ويهزؤون بما يعرض عليهم من أفكار، فالإسراع ببيان الرأي من القضايا التي تجدّ، يفيد كثيرًا في التأثير على الناس خاصة إذا كان هذا الرأي هو الصواب.