هاف بوست اعتبر الكاتب البريطاني ديفيد هيرست أن ما حدث في سوريا قبل أيام بمقتل المئات من الروس في عملية عسكرية أميركية، معركة كبيرة، لكنها لم تندلع بعد تداخلت المصالح بين الأطراف الإقليمية والدولية في البلد الذي مزّقته الحرب، منذ 7 سنوات، مشيراً إلى أن تركياوإيران هما فقط القادرتان على حسم الوضع في دمشق. وقال هيرست في مقال بموقع ميدل إيست آي، الجمعة 16 فبراير/شباط 2018، إن الجيش الروسي تكبَّد أكبر خسارة في الأرواح في تحركٍ عسكري واحد على أرضٍ أجنبية منذ الحرب السوفييتية في أفغانستان. والأكثر من ذلك أن الروس قُتلوا على يد رجال المدفعية وطياري الولاياتالمتحدة. وأضاف هيرست إذ قُتِل العشرات وربما المئات من الجنود الروس حين دمَّرت المدفعية وطائرات الأباتشي وطائرات AC 130 Spectre المسلحة رتلاً سورياً من المدرعات المتجهة نحو موقعٍ تسيطر عليه قوات سوريا الديمقراطية، التي يهيمن عليها الأكراد، بالقرب من قرية الطابية في دير الزور الغنية بالنفط. وبحسب المقال حلَّ صمتٌ محرج على المشهد الدامي. لم يجرؤ الكرملين ولا البنتاغون على الاعتراف بتبادل إطلاق النار بين قواتهما في شرقي سوريا، يومي السابع والثامن من فبراير/شباط. وأنكر ديمتري بسكوف، المتحدث الرسمي باسم الكرملين مقتل أي عضو من أعضاء الجيش الروسي، قائلاً: "ليست في حوزتنا أي بيانات عن روس آخرين قد يكونون متواجدين في سوريا". وقال وزير الدفاع الروسي، إنَّ "ميليشيا محلية" قد تحرَّكت دون تنسيق مع القيادة العليا الروسية. وزعم الأميركيون أنَّهم في "تواصل منتظم" مع الروس، قبل وأثناء وبعد "الهجوم غير المبرر". وقال الكولونيل ريان ديلون، المتحدث باسم الجيش الأميركي إنَّ "المسؤولين الروس قد طمأنوا قوات التحالف بأنَّهم لن يشتبكوا مع القوات الموجودة في المحيط". وأشار الكاتب البريطاني إلى أن هذه الواقعة لم تكن هي الأولى بين القوات المدعومة من الولاياتالمتحدة والقوات الروسية في سوريا. إذ زُعِم سابقاً أنَّ طائرةً نفاثة من طراز سوخوي 25 قد سقطت على يد هيئة تحرير الشام، الجماعة التي كانت تابعةً في الماضي لتنظيم القاعدة. ويُمكنني أن أكشف أنَّ الجماعة السورية التي أسقطت الطائرة الروسية هي في الواقع لواء جبهة ثوار سراقب. وهذه الجماعة لديها صلاتٌ بالولاياتالمتحدة وتحصل منها على معداتٍ عسكرية.
روسٌ آخرون
رسمياً، لم تقع المعركة من الأصل. لكنَّ شيئاً حدث في دير الزور. واقتبست صحيفة نيويورك تايمز الأميركية تصريح متعاقد عسكري روسي يعمل في سوريا بأنَّ زملاءه في منظمات مُرتزِقة قد قدَّروا وقوع خسائر ثقيلة قد تصل إلى مائتي قتيل. وقالت رويترز، استناداً إلى مصادر ثلاثة، أحدها طبيبٌ عسكري، إنَّ 300 روسي قد سقطوا بين قتيلٍ ومصاب. وأضافت أنَّ "طبيباً سورياً قال إنَّ مئةً قد قُتلوا، وأكَّد مصدرٌ يعرف عدداً من المقاتلين أنَّ الخسائر في الأرواح تتجاوز ثمانين قتيلاً". وقال أليكساندر أفيرين العضو بحزب "روسيا الأخرى" القومي الذي ينتمي إليه الروسي كيريل أنانييف المقتول في المعركة، إنَّه على دراية ب"خسائر مُعتبَرَة" تكبدتها "كيانات شبه عسكرية تربطها صلاتٌ بروسيا". إذاً، من هؤلاء "الروس الآخرون" في الموكب العسكري السوري؟ نعرف أنَّهم كانوا مُرتزقة تعاقدت معهم منظمة شبه عسكرية تُدعى مجموعة فاغنر، تحمِل الاسم المستعار لقائدها. وتُعرف مجموعة فاغنر في المجال بأنَّها من القوات التي يمكن إنكار وجودها أو العلم بوجودها من الجهات الرسمية، لكن لا خِلاف على أنَّها قواتٌ تابعة لروسيا. تستخدم مجموعة فاغنر منشآت التدريب التي توفرها وزارة الدفاع الروسية، ويتلقى قادتها أوسمة من الكرملين، وظهرت قوات فاغنر في ساحات حربٍ أخرى، منها أوكرانيا والقرم، بحسب المقال. لكن الشبكات الاجتماعية في روسيا على عكس الكرملين لم تلتزم الصمت بشأن هذه الخسائر البشرية. إذ نشرت مجموعة من مدوني المعارضة الروسية تحمل اسم "فريق استخبارات النزاعات" أسماء أربعة قتلى: أليكسي لاديغين من مدينة ريازان، وستانيسلاف ماتفييف وإيغور كوستوروف وفلاديمير لوغينوف من كاليننغراد. وزعمت منظمة قوزاقية بلطيقية روسية أنَّ لوغينوف كان من أعضائها. وكتب فريق استخبارات النزاعات في منشوره على فيسبوك: "في حين يصعُب التأكد من العدد الكامل لأعضاء (فاغنر) المقتولين في ضربات التحالف الجوي، لا شكَّ في صحة هذه الواقعة. وجديرٌ بالذكر أنَّ المنشورات عن مقتل المرتزِقة انتشرت سريعاً، فالمُعتاد أن أقارب المرتزِقة وزملاءهم يعرفون بمقتلهم بعد أسابيع أو أشهر من الواقعة". وبحسب هيرست فإن المُفارقة أنَّ هذه القوات هي نفسها التي امتدحها الكرملين على أعمالها الوطنية في أوكرانيا والقرم. وأنكر الكرملين وجودها في روسيا حتى الآن، لكنَّها مملوكة لقوميين روس في كل أنحاء روسيا. ولم يتردد سيرغي كاراغانوف الأكاديمي بمجموعة فالداي والمرخَّص من الكرملين في الربط بين التحركات الروسية في أوكرانيا وفي سوريا. إذ قال سيرغي في حواره مع صحيفة روسيسكايا غازيتا: "نحن (روسيا) والصين الجهتان الرئيستان في توفير الأمن للعالم اليوم. لقد منعنا قيام حربٍ أوروبية عبر عرقلة المخططات التي تستهدف أوكرانيا. وفي سوريا أوقفنا، إلى جانب أمور أخرى، سلسلة من الثورات الملونة التي زعزعت استقرار مناطق شاسعة. الصين توفر الأمن الاقتصادي، ونحن نوفر الأمن العسكري الاستراتيجي".
حربٌ اختيارية
ويرى الكاتب البريطاني أن التدخل العسكري الروسي في سوريا كان حرباً اختيارية. فوفقاً لمحلل السياسة الخارجية المخضرم ديميتري ترينين في كتابه "What is Russia Up To In the Middle East?"، أرسل بوتين عدداً من الرسائل إلى مختلف أنحاء العالم حين أرسل سِرباً صغيراً نسبياً قوامه 32 طائرة قتالية إلى سوريا. كانت سوريا فرصةً للتخلص من "العقدة الأفغانية"، التي تحظر التدخل الروسي في دولةٍ مسلمة، وكانت سوريا أول انتشارٍ للقوات العسكرية الروسية خارج حديقة روسيا الخلفية، وكسرت سوريا الاحتكار الأميركي لحق استخدام القوة، وكانت سوريا بوابة عادت عبرها روسيا إلى الساحة العالمية بصفتها لاعباً مستقلاً. واشتملت بواعث بوتين على عنصر داخلي قوي، فقد ربط بين الربيع العربي وبين سلسلة من الانتفاضات الشعبية على أعتاب روسيا، أي الثورات الملونة التي هزت صربيا وجورجيا وأوكرانيا، بحسب المقال. وكتب ترينين: "الحماس الغربي لدعم الديمقراطية في مناطق كانت تُعدُّ معاقل للسلطوية أدى إلى انتشار المخاوف في أنحاء الكرملين من محاولة المنظمات غير الحكومية الغربية، التي تتلقى تمويلاً غربياً التسبب في ربيعٍ روسي. وبدا أنَّ هذه الشكوك قد دعَّمتها موجات الاحتجاج الشعبي التي ضربت موسكو فجأةً في شتاء 2011 و2012، ومثَّلت تحدياً لبوتين أقوى من أي تحدٍّ آخر واجهه منذ توليه الحكم عام 2000". وأظهرت تظاهرات ميدان كييف في 2013 و2014 لروسيا ما ستبدو عليه الثورة الشعبية، وزادت من عزم روسيا على إيقاف حدوث الشيء نفسه في سوريا. وكتب ترينين: "في التحليل الروسي، كانت الإسلاموية على الأرجح هي أكثر المنتفعين، و(الربيع الإسلامي) هو المحطة التالية بعد إحباط الربيع الديمقراطي". ويفضح ترينين زيف فرضية أنَّ روسيا بوتين هي مولدٌ جديد للاتحاد السوفييتي. فروسيا، كما يلاحظ، قوة محافظة معادية للثورات من الأساس، وهو السبب الذي يجعل حفنة من أمراء الخليج والحكام الدكتاتوريين العسكريين يوافقون على تحركاتها، بحسب المقال.
كان هذا في الماضي، أما الحاضر فيختلف
وقال هيرست زعم بوتين أنَّ روسيا قد انتصرت ثلاث مراتٍ على الأقل منذ بدء التدخل العسكري. وإن كان الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن قد ندم على استعراضه حين صعد على متن حاملة الطائرات الأميركية أبراهام لنكولن، في الأول من مايو/أيار 2003 تحت لافتةٍ كبيرة مكتوب عليها "المهمة أُنجِزت بنجاح" في العراق، فقد اكتشف بوتين اكتشافاً مشابهاً، بأنَّ مزاعم تحقق النصر كانت سابقةً لأوانها. مثل بوش، وبلير، وكاميرون، وساركوزي من قبله، يتعلم بوتين أنَّ بدء التدخل العسكري في دولةٍ عربية أسهل من إنهائه. فالمعارضة السورية، أو بالأحرى الميليشيات التي لم تدمرها طائرات القصف الروسية، لم تلعب الكرة في أولمبياد سوتشي. ولا يُمكن ترك بشار الأسد وحده، فهو ليس حافظ الأسد. ودون الدعم المستمر بالقوات الجوية الروسية والميليشيات المدعومة من إيران، ستكون القوات المسلحة السورية زائفة وهشة مثل قرية بوتمكين. ولا يُمكن ائتمان الجيش السوري على الدفاع عن المناطق التي استعاد السيطرة عليها بنفسه، بحسب المقال. وبعد عامٍ من سقوط شرقي حلب، تبقى الحقيقة أنَّ أياً من الجانبين لم ينتصر. والوضع الأميركي في سوريا أسوأ من الروسي. فبعد تخلي الولاياتالمتحدة عن المعارضة السورية، تتقاضى أميركا أموالاً سعودية من أجل دعم قوات سوريا الديمقراطية التي يُهيمن عليها الأكراد. وترفض الولاياتالمتحدة مغادرة سوريا، متحججةً باستمرار خطر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لكنَّها ليست في وضعٍ يؤهلها للتوسط من أجل تحقيق السلام، بحسب المقال. وتدهورت التحركات والرسائل الأميركية في الشرق الأوسط منذ زمن، حتى وصلت إلى حالة تفكك كاملة. فرئيس أميركا هو دونالد ترامب الذي ينكر أنَّ الروس قد تدخلوا في انتخابات 2016 الرئاسية الأميركية، بينما تقدم إحدى المؤسسات الأمنية أدلة وافرة على حدوث ذلك؛ ويعلن ترامب "ثقته الكبيرة" في ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بينما يسرب مسؤولون أميركيون معلومةً تفيد بأنَّ الأمير اشترى لوحةً لليوناردو دافينشي ثمنها 450 مليون دولار أميركي؛ ويهدد ترامب الأردن لأنَّها لم تسِر في ركب الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل، بينما يوافق وزير خارجيته على تمديد الدعم الأميركي للأردن خمس سنوات. إن كانت الولاياتالمتحدة في حربٍ، فهي في حربٍ مع نفسها.
واستكمل هيرست قائلاً تتبقى لنا قوتان قادرتان على إنهاء النزاع السوري: تركياوإيران. وما فهمته من مصادر في العاصمتين هو أنَّ الإيرانيين على استعداد لمنح تركيا دوراً أبرز في سوريا، يشمل عمليات إعادة الإعمار، إن سمحت تركيا للأسد بالبقاء في السلطة. لم ترد تركيا على الرسالة بعد، لكنَّ أنقرة فسَّرت الرسالة على أنها اعترافٌ من طهران بأنَّها أخطأت في حساباتها حين دعت الروس إلى التدخل. لدى إيران الآن قوتان كبريان في سوريا، لن تُغادر أيٌّ منهما الساحة قريباً. ومؤخراً تعرضت قواتها في جنوب البلاد لهجومٍ ضارٍ من الطائرات الإسرائيلية. وأكَّدت مصادر في تركيا المزاعم الإسرائيلية بأنَّ قوات إسرائيل الجوية وجَّهت ضربةً موجعة للمقدرات الإيرانية في المنطقة، رداً على ضرباتٍ تضمنت إسقاط طائرة إسرائيلية، بحسب المقال. الرسالة شاهدٌ أيضاً على التشكك الإيراني في دوافع بوتين. فقد طلبت إيران من روسيا المساعدة، لا الحلول محل المقدرات والمصالح الإيرانية. إذ ترى إيرانسوريا امتداداً طبيعياً لنطاق نفوذها الممتد إلى البحر الأبيض المتوسط. ولم تدعُ إيرانروسيا إلى التدخل في سوريا من أجل التحكم في شؤون الحرب والسلام. لكنَّ إيران لا تقلقها مخاوف مماثلة حيال دعوة تركيا إلى الاضطلاع بدورٍ أكبر. فبغضّ النظر عن المآلات، تركيا دولة لديها قوات عسكرية معتبرة في سوريا الآن. ولا ينطبق هذا على عفرين وحدها، حيثُ تحاول تركيا إجبار حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي على التراجع وإحلال العرب السوريين من الجيش السوري الحر محلهم في منبج، كما يرى هيرست. والقوات التركية أيضاً جزءٌ من نسيج إدلب. وتؤوي تركيا كذلك ثلاثة ملايين ونصف المليون لاجئ، إضافةً إلى المعارضة السورية. وإن كان أي بلدٍ يحوز مفاتيح إنهاء هذا النزاع بطريقةٍ تحمي حقوق الإنسان والحقوق السياسية لملايين السوريين، فهو تركيا. سوريا بلدٌ مدمَّر، لذا فإنَّ القوة التي تمول إعادة إعمارها هي البلد الذي سيحدد مسارها المستقبلي. ويزعم واضعو الاستراتيجيات الروس أنَّ دافعهم الوحيد من أجل التدخل هو ضمان عدم تحول سوريا إلى ليبيا أو يمن أخرى. لكنَّهم سراً يعترفون بأنَّ مستقبل سوريا ملامحه بدأت تشبه لبنان، دولةً ضعيفة، بقوىً مُهيمنة محلية وإقليمية. المُفارقة هي أنَّ روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي والدول العربية لديها الكثير من الأمور المشتركة. إذ كانوا جميعاً أهدافاً وضحايا لمحاولات السيادة الغربية المُحافظة الجديدة في نهاية الحرب الباردة. المأساة هي أنَّ روسيا سيمكنها فقط دخول الساحة العالمية مجدداً بإطلاق حملتها العسكرية الخاصة في سوريا، على حساب الدماء السورية ودماء مواطنيها في الوقت الحالي. وبالتدخل في سوريا، اتخذ بوتين نفس المسار الذي خاضه الأميركيون والبريطانيون والفرنسيون من قبل. ووجد نفسه في مستنقع سوريا، منتظراً أن ينقذه الآخرون.