إنّ هذه المشاهد الجميلة، التي ما فتئ المسلمون في الغرب عمومًا، وفي فرنسا على الخصوص، يقدمونها من خلال الملتقيات التي ينظمونها، بفسيفسائية عرقية متميِّزة، وبتنظيم اجتماعي لافت، وبمستوى علمي راقٍ، إنّ هذه المشاهد المتنقلة من منطقة إلى أخرى، لمما يثير الإعجاب والخوف معًا. فالتنافسية الشريفة بين المنظمات الإسلامية والحضور العلمي العالي المستوى، والتمثيل الجغرافي الإسلامي مشرقًا ومغربًا لمما يطبع هذه الملتقيات بطابع خاص، فإذا أضفنا إلى كلّ ذلك مشاركة كلّ الأجيال ولا سيما الشباب، وحسن التنظيم الذي خلا من أيَّة شائبة عنف، والحماس الذي ساد عشرات الآلاف من الحاضرين والحاضرات، أدركنا أيَّ مستوى من الوعي وصله المسلمون في المهجر، وزادنا اطمئنانًا على مستقبل الإسلام في الغرب. فاللقاء الإسلامي الهام لمسلمي الشمال الذي حضرناه في مدينة “ليل" في بداية شهر مارس 2013م، والذي حضره الآلاف من مسلمي الشمال، قد أعطى للفرنسيين المتعايشين مع المسلمين، ولوسائل الإعلام الحاضرة، أعطاهم الانطباع بأنّ جيلاً جديدًا من المسلمين مختلف تمامًا عن الجيل الذي صنعه الاستعمار، والمتّسم بالجهل، والتخلف، وعدم الوعي بعقيدته. إنّ الجيل الإسلامي الجديد، قد أصبح جيلا متحضرًا، ديدنه العلم في شموليته، والتّقدم بمختلف وسائله، رابطًا المسجد بالمعهد، والجامعة، والكلّ بالحياة. وإنّ خير دليل يقدمه المسلمون في الشمال عن كلّ هذه الخصائص الحضارية هو تصنيف ثانويتهم الخاصة “ثانوية ابن رشد" كأوّل ثانوية من حيث المستوى العلمي، في القطر الفرنسي كلّه، متقدمة على ثانويات فرنسية عريقة، كثانوية “هنري4" “Henri4" وثانوية “لويس لو ڤران" “Louis le grand" وغيرهما. إنّ هذا التصنيف الذي رتبته وزارة التربية الفرنسية بالذات ليؤكد المستوى العلمي والتربوي الذي حققته ثانوية “ليل الإسلامية" الخاصة التي تشرف عليها منظمة مسلمي الشمال الفرنسي. ولقد انعكس كلّ هذا على المستوى العلمي الذي تحلّى به الملتقى، فكان عاليًا، سواء من حيث نوعية الحضور أو من حيث المشاركين من العلماء المحاضرين. وجاء الملتقى الثلاثون لاتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا أيام 29، 30 و31 مارس 2013م، والذي ينعقد كلّ سنة في مدينة “لوبورجي Le Bourget" الباريسية فصنع الحدث بكثافة ونوعية الحاضرين، إذ فاق عددهم “المئة وستين ألفًا" جمع بين النشاط العلمي والإعلامي، والاقتصادي، فكان نموذجًا لإسلام السوق، وللسوق الإسلامي. فعلى مدار أربعة أيام عاش المسلمون من كلّ أنحاء فرنسا عرسًا إسلاميًا شاملا، سادته الأخوة الإسلامية، وطبعه التسامح الاجتماعي وقدم للجميع صورة أخرى للقيّم الإنسانية السّامية كما عودتنا مدينة “ايستر Istres" الواقعة جنوبفرنسا، على تنظيم أيامها العلمية بمركزها الثقافي الإسلامي المزدهر، فنظمت يوم السابع من أفريل 2013م، ملتقى جعلت موضوعه “تجديد الخطاب الإسلامي المعاصر" دعت إليه كوكبة من العاملين في الحقل الإسلامي داخل فرنسا، وخارجها، شارك فيه من الجزائر، معالي الدكتور سعيد شيبان، وكاتب هذه السطور، وسينعقد بعد أيام، بكلّ من مدينة “ليل" من جديد، وبمدينة “مرسيليا" ملتقيان هامان. فأمّا الأوّل، فتعقده الاتحادية الجزائرية لشمال فرنسا، بليل، بمناسبة يوم العلم وذلك يوم 14 أفريل 2013م، ودعت إليه هي الأخرى كوكبة من العاملين في الحقل الإسلامي داخل فرنسا وخارجها، أبرزهم علماء من الجزائر ومن الأزهر، ومن السعودية وغيرها. وأمّا الملتقى الآخر فسينعقد إن شاء الله يوم 19 من مايو 2013م، بالمركز الإسلامي بمرسيليا، بمناسبة إطلاق مشروع إعدادية، وثانوية “ابن خلدون" الإسلامية الخاصة، ومن بين المدعوين إليه من الجزائر كاتب هذه السطور. إنّ هذا الزخم المعرفي، وهذا الحراك الإسلامي الذي يطبع الحياة الإسلامية في فرنسا بالذات، لدليل على صحة التحوّل الذي طرأ على الحياة الإسلامية نحو الأفضل، مما يقدم صورة مشرفة عن الإسلام والمسلمين. على أنّ كلّ هذا ينبغي أن لا يجعلنا ننسى كبريات المشاكل التي تعانيها الجالية الإسلامية في الغرب، وفي فرنسا بحيث يُعتقد أنّ المسلمين قد تجاوزوا كلّ معاناتهم، وأنّهم أصبحوا خير جالية أخرجت للناس. إنّ الموضوعية والوعي بالذات يقتضيان التركيز أيضًا على جوانب القصور في الذات الإسلامية. فلا يزال الضياع يطبع حياة جانب كبير من جاليتنا، ولا تزال السجون الفرنسية غاصّة بالكثير من أبناء المسلمين. ولكن ما نخشاه على الجالية الإسلامية في محاولتها للقضاء على الضياع، وكلّ أنواع الآفات الفتّاكة، هو الفرقة التي قد تتسلل إلى التنظيمات، باسم التّعصب أو الانتماء الضيّق، وكذلك حبّ الذات والاستئثار بالمناصب والمصالح إلى جانب بعض الغلّو في فهم الدين، مما قد يفسد على المسلمين عرسهم ويضيّع عليهم غرسهم، ونعوذ بالله من السلب بعد العطاء {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} النور63. بقلم الأستاذ الدكتور: عبد الرزاق ڤسوم