قال المحلل السياسي التونسي، نزار مقني، أن الجوار الليبي لم يساعد الأزمة على الحل ولم يوجهها نحو الانفراج، مشيرا في الحوار الذي جمعه ب"البلاد" إلى أن مصر تدعم في الشرق الليبي، حفتر ومجلس النواب على حساب السلطات الأخرى في الغرب، معتبرا بذلك أنها لم تدفع ولم تضغط نحو تشكيل حكومة واحدة بل العكس، كرست الأزمة وزادت من حدة الصراع رفقة كل من الإمارات العربية المتحدة والسعودية. وأشار مقني، إلى أن تونس والجزائر تعاملتا مع سلطات الغرب بحكم الموقع الجيوسياسي لكلاهما ووفق مقتضيات الجغرافيا ولم تعمل على هذا الحل الا متأخر.
بعد ست سنوات من انطلاق الثورة التونسية ضد نظام بن علي، ماذا حققت تونس من مبتغياتها إلى يومنا هذا؟ لا يمكن الحديث عن تحقيق أهداف الثورة التونسية في وقت وجيز، تاريخيا فإن الثورات لا تتوج أهدافها إلا بعد مخاض كبير، خاصة وأن المستهدف من الثورة هو النظام الذي وجدت إرادة شعبية لتغييره، من حالته السلطوية إلى حالة أخرى تعددية المرجو منها تحقيق الديمقراطية، لذلك فنحن نتحدث هنا عن مسار كامل فيه مراحل وصعوبات كبيرة، وكذلك منزلقات خطيرة قد تطيحه من جديد في جب الاستبداد (لذلك قلت حالة تعددية). تونس عاشت 6 سنوات من المخاض العسير للخروج من نفق مظلم كاد أن يئد التجربة الجنينية في رحمها، خاصة مع فوضى كان بنطها العريض الاستهتار السياسي من جهة الأحزاب التي حكمت بعد حصولها على الأغلبية في انتخابات المجلس التأسيسي أو ما يمكن أن أطلق عليه "ترويكا النهضة"، وكان خطها الصغير الأنانية في ممارسة الحكم و"فرض ما لا يفرض" في مرحلة انتقالية، والابتعاد عن "لزوم ما يلزم" لترسيخ الهدف السياسي للثورة وهو التوجه نحو الديمقراطية بنظام جمهوري.. ومن ثم كان حبرها الذي سطر عناوينها الرئيسية كثير من الدماء من خلال العمليات من تنظيمات إرهابية وجدت أرضية سانحة للنشاط في تونس، بسبب تساهل من سلطة "ترويكا النهضة" آنذاك وذلك بتعلة حرية التعبير، ونفذت اغتيالات سياسية ومنها اغتيال الشهيد شكري بلعيد زعيم حزب الديمقراطيين الاشتراكيين وكذلك الشهيد محمد البراهمي القيادي في التيار الشعبي وكلاهما من عائلة اليسار التونسي.
كيف يمكن وصف الحالة التي عاشتها تونس في تلك الفترة تحديدا؟ دخلت تونس في تلك الفترة في نفق مظلم، خرجت منه باستعمال وسائل ديمقراطية (الحوار الوطني الذي رعاه الرباعي الراعي للحوار) وبفرض الأمر الواقع بسبب تغيير موازين القوى في دول عرفت انتفاضات ومنها مصر. لقد كانت لفترة حكم الإسلام السياسي في تونس على امتداد 3 سنوات عواقب كارثية ساهمت في تأجيج الوضع في البلاد من جهة وكذلك في استفحال الإرهاب بيده التونسية في الداخل والخارج، وكان منه أن اتجهت البلاد الى مربع أحمر وهو التقهقر الاقتصادي والاجتماعي، تسبب في عدم مباشرة تنفيذ أهداف الثورة الاقتصادية والاجتماعية أو تطبيق مبدأ التمييز الإيجابي للمناطق المهمشة في الداخل التونسي والذي كان من بين المبادئ التي أتى بها دستور الجمهورية الثانية الذي اريد أن أشير إلى أنه "ثمرة" الحوار الوطني الذي أخرج البلاد من أزمة وأدخلها في فترة انتقالية ثانية دامت سنة كاملة وحضرت لانتخابات التشريعية والرئاسية. ولا يفصل تونس اليوم على استكمال متطلبات نجاح المسار الديمقراطي إلا المرور نحو تطبيق الديمقراطية المحلية، وإنجاز الانتخابات البلدية والجهوية، وهي انتخابات لازمة لتثبيت النسق الديمقراطي والدينامكية السياسية في النظام التعددي الجديد.
إلى أي مدى استطاع ڤايد السبسي أن يعكس طموحات الشعب التونسي في الرئيس المأمول؟ يشير عالم الاجتماع السياسي ماكس فبير إلى 3 أنواع من الشرعية السياسية وهي السلطة التقليدية (القائمة على التاريخ والعادات) والسلطة الكاريزمية (القائمة على قوة الشخصية)، والسلطة الرئيسية القانونية (المستندة إلى إطار من القواعد الرسمية القانونية). انطلاقا من هذا المفهوم الفبري لفهم الشرعية السياسية، فإن الباجي ڤايد السبسي اعتمد على إبراز أنه امتداد لسلطة قديمة وهي سلطة الزعيم الحبيب بورڤيبة، حيث استطاع السبسي قولبة ما هو موجود في تلك الفترة ولعب على أخطاء أصحاب السلطة من "ترويكا النهضة".. وقدم نفسه كمنقذ للنظام الاجتماعي الذي تحاول السلطة الجديدة تغييره. ثم اعتمد على السلطة الكارزمية المتمثلة في طرح نفسه كزعيم يستطيع أن يحمي الجمهورية الثانية مثلما بنى سلفه المحبب بورڤيبة الدولة الحديثة بعد الاستعمار، أراد الباجي قايد السبسي من خلال هذه الشرعية الكارزمية أن يقدم نفسه ك"أب" مؤسس للجمهورية الثانية، وهو إلى حد معين لم يتمكن من تحقيقه إلى اليوم، بسبب التعثر في المسارات الاجتماعية والاقتصادية للجمهورية الثانية. لذلك وبعد سنتين من الحكم وجد نفسه أمام إشكالية ليتمكن من التحكم بالشرعية الرئيسية وهي شرعية القوانين والتي لم تمنحه كل الصلاحيات في تسيير شؤون الدولة، وهو ما جعله يتذمر في مناسبات عديدة من تأصيل الدستور التونسي لسلطة برأسين يستأثر فيها رئيس الحكومة بصلاحيات واسعة أمام رأس الدولة وهو رئيس الجمهورية، تلك القوانين التي لم تمنحه الشرعية اللازمة ليكمل صورته ك"أب للجمهورية الثانية". هذا ما جعله يتجه لخيار ثان وهو مبادرة تشكيل حكومة أرادها حكومة وحدة وطنية، كانت تلك المبادرة بمثابة "الفترينة" والتي بموجبها قام بإعادة خلط الأوراق السياسية من خلال تعيين شاب في رئاسة الحكومة يقوم "الأب" بتأطيره وتربيته على أداء دوره كرجل دولة. بهذه الطريقة أصبحت سلطة "الأب" ومشيئته هي التي تتحكم في دواليب الدولة، وليست مشيئة رئيس الحكومة. بهذا يستحق الباجي ڤايد السبسي لقب "الدابة السياسية"، التي ما تزال تثبت نفسها لتتحمل مسؤوليتها في حمل البلاد من شفا الجرف الهار اقتصاديا واجتماعيا، إلى مرحلة الإقلاع وهو ما يطلب عملا في إطار الدولة أكثر من الدهاء السياسي.
ما توقعاتكم للقمة الثلاثية التي ستجمع بوتفليقة والسبسي والسيسي لتحقيق الحل السياسي للأزمة الليبية؟ يمكن لهذه المبادرة أن تنجح إذا ما تحققت 3 شروط أساسية لذلك: أولا ابتعاد هذه الأطراف عن الحسابات الضيقة فيما يخص ليبيا، فحسابات "بلدان الطوق الليبي" هي التي أطاحت باتفاق الصخيرات، من خلال سياسات دعم الأطراف المتناحرة وهو ما جعل الإرهاب يتأصل ويبرز بأنيابه في ليبيا، في سرت وغيرها من المناطق، بل إن إعلان داعش عن نفسه في سرت كان نتيجة لتصادم خطوط الصدع (تخوم الصراع) بين الشرق والغرب، وهو ما ترجم سياسيا في عدم المصادقة من قبل مجلس النواب في طبرق في الشرق على السلطة الجديدة التي أتت من رحم اتفاق الصخيرات. ومثلا كان بالإمكان أن تضغط مصر أكثر على مجلس النواب وكذلك على حفتر للمصادقة على حكومة الوفاق، لكن الحسابات السياسوية الضيقة هي التي غلبت، خاصة وأن القاهرة تنظر للسلطات التي سيطرت على طرابلس وهم من الإسلاميين على أنهم إرهابيين، تلك النظرة التي تتمسك بها كذلك الامارت العربية المتحدة في توجيهها لكفة التوازنات في ليبيا من خلال دعم المشير خليفة حفتر. ثانيا، يجب تحييد كل القوى التي لا تسعى لعقد اتفاق مثل هذا خاصة التي تتبنى عقيدة جهادية قريبة للقاعدة وترى أن كل تقارب بين الفريقين هو بمثابة "خيانة للثورة" وخيانة للدين، وهذه النظرة يمكن أن تساهم في تكبير الصدع أكثر بتحركات مشبوهة، خاصة تلك التي شهدتها العاصمة طرابلس ومحاولة رئيس حكومة الإنقاذ خليفة غويل المدعوم من إسلاميين متطرفين السيطرة على مقرات حكومية. ثالثا الأهم من المسار السياسي التي تتبناه المبادرة فإن نجاحها مرتبط بمسار آخر أطلق عليه مسار المصالحة الاجتماعية بين مختلف مكونات الاجتماعية الليبية.. وهذا العمل يمكن تبنيه رسميا وعدم حصره بما تفعله مبادرات لمكونات من المجتمع المدني، فصبغ هذه العملية بالرسمية هي التي يمكن أن تعطيها نفسا للمواصلة في نهج البناء ومحاولة طبع العقلية القبلية بتصرفات مدنية يمكنها على امتداد الزمن أن تشكل ملامح "ديمقراطية ليبية فريدة"، فإذا كانت القبيلة هي المتسببة في هذا التففت الاجتماعي السياسي الليبي وكانت اللبنة الأولى وراء هذا الصراع المحموم فلماذا لا تكون هي نقطة الارتكاز، ولا يكون هذا إلا عن طريق تحميل القبائل مسؤولية اتخاذ القرار، وهذا ما سيقوي الدولة ويجعلها تمارس دورها وتفرض سيطرتها على كل الإقليم الليبي.
إذا قلنا أهم ما سيخرج به هذا الاجتماع، ماذا يمكن توقعه ؟ في المجمل، أرى أن مبادرة مثل هذه تأخرت كثيرا خاصة من دول الجوار، كان بالإمكان تفادي كل ما حصل إذا ما عملت هذه الدول مع بعض من الأول لتوطيد الحل السياسي في ليبيا، فكان يمكن أن تفعل مثل هذه المبادرة في سنة 2015، ففرض مبادرة من الغرب على ليبيا وتعدد الأجندات هو الذي سرع بسقوط اتفاق الصخيرات. القمة الثلاثية هي انطلاق للحل النهائي في ليبيا، أعتقد أنه سيكون ناجحا وسيكون مثمرا وسيشكل اللبنة الأولى للحل السياسي وفق مسار الصخيرات مع تعديلات جديدة تهم النقطة الثامنة من الاتفاق وكذلك التمثيلية في المجلس الرئاسي الليبي وتوزيع المسؤوليات على الأقاليم الليبية في الحكومة الجديدة المتولدة من المجلس الرئاسي.
بمناسبة محاولة "اغتيال" جندي فرنسي في باريس باللوفر، بعدما صرحت الشرطة الفرنسية أن الفاعل صاح "الله أكبر" قبل أن يشهل سكينه، ما تعليقكم على الحادثة؟ أرى أنها تنزل في إطار إرهابي بحت، وأرى أن الدول الأوروبية ككل ستعرف عمليات أخرى يخطط لها من قبل هذه التنظيمات الإرهابية مثل "داعش" و"القاعدة". وأعتقد في هذا الإطار أن تنظيم داعش سوف لن يستسلم بسهولة وسوف يجد ملاذات أخرى خاصة في إفريقيا على امتداد الصحراء الكبرى. من هنا يجب تعزيز التنسيق الأمني المشترك بين كل الدول للعمل على حصر خطر هذا التنظيم أكثر. الجزء الثاني من الحوار في العدد القادم..