بكل المقاييس المتعارف عليها فإن المفاجأة التي يمكن التوقف عندها مطولا و«مدولا»، ليست في ملامح الفائز والمنكسر في انتخابات العاشر ماي التي حافظت لجبهة بلخادم على مكانها «النابض» في وجدان الكثيرين، وإنما في محطة من تكلموا كثيرا وهددوا كثيرا وتمخضوا كثيرا، ليحبل وهمهم بالفأر التاريخي المعهود الذي أتعب ذلك الجبل الساكن منذ ألحقوه بحجره حين خلدوا حكمة، تمخض الجبل فولد فأرا.. ثم عار عاري المضمون عنوانه الكبير رحم الله «جاب الله» و«عطالله» وغيرهم من ملحقات «عباد الله» المتوهمين، إذا ما عرفوا قدر و«غدر» أنفسهم.. في مدينتي، حيث يمكنك أن تعثر بين الدون كيشوت والدون كيشوت، على دون كيشوت، راقد ماكل شارب، وسط حرب طواحين صنعته من عقم وعدم، أذكر فيما «أسخر» ملحمة «بطلا» أسطوريا، ارتبطت ملامحه واسمه بمخيلتي، كثائر شعبي، خلدته حكايات عجائز وشيوخ مدينتي بين الأحياء القديمة والحواري المعدمة، كان اسمه، منذ صغري مرتبطا بقدرته الخارقة على تحدي المسؤولين المحليين، ورغم أن شهرته التاريخية تلك استمدها من واقعة «خرافية» الخيل والليل والبيداء التي لم تعرفه، إلا أني كواحد من جيلي المتكهل، ابتعلت لربع قرن من «الخرافة» أن «عليلو» الجلفة، ومثله كثر على مختلف «تخاريف» البلاد، لا فرق بينه في الإقدام والشجاعة وبين السيد «علي» حيث يمكنه أن يسقط بيسراه ألفا وبيمناه ألفا.. أما في الوسط، حيث قلب المعركة فإن «عليلو ديالنا» كان «ميترو» المدينة..كان وهما وكنت كحال الآخرين، وليس الأخيرين، متوهما أن هذا الذي تحاكيه ذاكرة مدينتي بطل يفرض علي وحتى أنا في «أكهل» العمر، أن أقف أمامه واجما لأستمتع منه ببطولة، فعلها هناك، حيث كنت صبيا، وتفاعلت معها هنا حيث كنت شابا، وأفتعلها الآن بعدما تجاوزتني أربعيني، لكن بين «عليلو» الذي توسد ذاكرتي وحاجتي لبطل ولو من ورق، وبين ما اكتشفته منذ حين، عن الشيخ «جاب الله» وطينة «عليلو» الصنديد، فإني حقا أحتاج لمن يرمم لي أوهامي لأستعيد منها أني كنت منوما، بشيء اسمه بطل، والسبب أني بدلا من أن «أرى» ما فعل، رحت أصفق على ما سمعته من وعن الشيخ جاب الله وبطل مدينتي، غير مكترث بحقيقة أن ترتيل القرآن مثلا لا يجعل منك فقيها، فالكلام سهل، أما البطولة فإنها أبدا لن تكون إلا في ساحة القول الذي يقرنه فعل ثم فاعل لم أجده لا في مدينتي ولا بين معارك الشيخ جاب الله التي أمتعنا بها لأكثر من عشرين يوما من إعلانات نصر لمعارك كان مهزلتها الوحيدة هذا الشيخ الذي خرج في الليلة الظلماء مهللا لعرس كان طبله الذي قرع كل المعازف لكنه في النهاية، تفرق العرس ودخل العريس بعروسته، أما «الطبال» فإنه دخل التاريخ من باب تمخض الجبل فولد فأرا.. عن الشيخ جاب الله، الذي أطربنا بفتاوى أنه سيؤم البرلمان رفقة حرمه المصون وخال العيال والأخ الشقيق في تشريع أن الشرع أوصى بالمعروف للأقربين، وعن «عليلو» الجلفة الذي خرج إلى الشارع الانتخابي مرة واحدة، حيث معاقله التي كانت تحاكي بطولاته ليهزم عن «بكرة» تاريخه بعدما طرحه أرضا شاب يافع من جيلي ليزيل سطوته التاريخية في رمشة «صندوق»، عن هذا ال«جاب الله» الذي جاب الديار والقفار مهددا ومتوعدا وواعدا بزحف لا يذر عليها صندوقا انتخابيا إلا رقاه سياسيا ليرتقي به إلى الإمارة، وعن ذلك ال«عليلو» الجلفاوي الذي سلبني من عمري ربع قرن من «التيمم» على محيا بطولاته الوهمية، أعترف بأن العلة لم تكن يوما في «عليلو» من وهم أو»جاب الله» من عدم، وإنما في عقولنا اليتيمة التي تعودت على ابتلاع الوهم في هروب من «جبننا» الكامن، فرغم أن الآلاف ممن تابعوا الشيخ جاب الله في حملته الانتخابية هذا، كانوا يوقنون بأن كلامه عن الاجتياح الشامل للقضاء على الفقر خلال عام واحد، مجرد «جياح» شامل، إلا أن جميعهم صفقوا ثم تدافعوا لمن يعرفون أنه «يتقاعد بيهم».. ففيمن العلة، هل هي في جاب الله الذي وجد مصفقين للوهم، أم في أنا شخصيا، يوم صدقت أن «عليلو» مدينتي، نبي للماضي وللحاضر دون أن أسال ماذا «استفعل» الرجل، وأي امتحان جعل منه رجل المدينة في الشارع، فإذا بالانتخابات الحالية، حيث غير و«أغار» على لونه، تثبت أن «جنانو» مثل «جنان» جاب الله طاب.. وأنني وحدي من ضيع ربع قرن في زيارة ضريح لبطل لم يكن له من وجود إلا في مخيلتي.. عليلو، لقد عراك شاب بسيط، في انتخابات شفافة، فأنت الكبير سرت ليلا ونهارا، وطرقت كل الأبواب لتعود خائبا، حيث لم يعرفك أحد.. جاب الله، أما كان لك أن تعرف قدر نفسك، فلا تمدد عمامتك فوق رأسك الذي تشغله، فلقد شغلت «الورى» بوهم رددته كالصلاة، فرحم الله امرأ عرف «غدر» نفسها، فنهاها عن «غدرها» به.. للعلم، أن حكاية «عليلو» قصة حقيقية عن شخصية تشابه المئات، في كل المدن، وموقعها مدينة انتفضت في أول امتحان حر على عبادة الوهم، لتضع الانتخابات كل «قوال» في مكانه، فالقول يجب أن يوثقه الفعل، فزمن دونكيشوت والشاطر حسن أو «علي» انتهى بثه.. فلنمدد أرجلنا على مقاس سريرنا فقد فضحت الانتخابات بشكلها الحالي أكثر من «غانية» حي أغروها بقولهم «حسناء»...