كان العرض الأول ل ''كيشوت'' بالمسرح الوطني مساء أول أمس، ذكيا وجريئا في تميزه· ''كيشوت''، هل هو تمادٍ من قبل محمد بن قطاف في تغيير لعبة الكتابة الدرامية الواقعة على شفا حفرة من الوهم الجميل، والذي يجعلنا نحن أنفسنا لعبة يتقاذفها الخيال وإغراءات التوهم والتماهي في الوقت ذاته؟! منذ اللحظة الأولى، يكشف العرض عن ذلك التوغل في مداعبة لعبة التحايل على الحقيقة·· الحقيقة التي تكون عندما لا تكون، وتظهر عندما ترتدي كل ذلك الزي الذي يدحرجها أمامنا، لتقوم بتدمير تجليها ووضوحها عبر اختراقها كوم الظلام، ظلام الباطن وظلام القادم من قلب اللعبة المقترحة· هل كيشوت، هو نسخة منقحة من دون كيشوت؟! هل كيشوت هو تنويع ساخر، وبارودي على متن النص التاريخي شبه الأسطوري لسرفانتس؟! محمد بن قطاف أراد أن يفتح في النص نافذته الخاصة، النافذة التي لا يطل بها على دون كيشوت، بقدر ما يقودنا نحن إلى الإطلالة الوئيدة، الساخرة، والكئيبة على عالمنا نحن·· على العالم الذي يحاصرنا من داخلنا بكل التفاهات التي تعمل على تنميطنا وتجريدنا من كل ما يمكن أن يبعثنا إلى الحياة من جديد·· هنا جنون عسير ومغلق التقى حوله محمد بن قطاف الكاتب وشوقي بوزيد المخرج، وهذا الجنون لا يمكن تفكيكه إلا عبر الاستعمال الذكي والتوظيف الشيطاني للكود أو الشفرة الجمالية·· وهذه الشفرة الجمالية تبدأ من درجة التواطؤ المبني على الاشتغال على شراكة الوعي في انبناء الكتابة وانبناء العرض ضمن وحدة تتكامل من خلال الاختلاف الموسع والموحد في الوقت نفسه، رحلة كيشوت، تتم في الظلام، ظلام الطريق، طريق الحياة وطريق البحث عبثا عن الحقيقة·· وتتلخص كل هذه الحقيقة في عبثية المعنى الوجودي للرجل·· رجلنا الذي يواجهنا بكل ما هو ساكن وتافه في أعماقنا·· ويكمن تواطؤ بوزيد شوقي في الانتقال بنص محمد بن قطاف من مستوى خرافة اليومي والبديهي إلى الخرافة المتكئة متنزقة كل ما هو ظاهر وملموس ومتجلٍ·· وكانت هذه النقلة عبر ذلك العالم المتوحد والمليئ بالأشباح الذي تمكن شوقي بوزيد من نسجه بشكل ذكي وناجح·· استطاع مخرج كيشوت، أن يمزج بين عالمين يبدوان لأول وهلة متباعدين ومتنافرين، وهما عالم الأفكار وعالم الأشياء، لقد صهرهما بوزيد في عالم واحد متماسك وإن كان هذا العالم يقوم على وحدة التشظي·· اختار بوزيد المسرح الجاد، المسرح الذي يغامر بمخاطبة النخبة، وهذا ليس بالأمر الهين، لأنه ببساطة مسرح يسبح ضد التيار·· تيار الذوق المهيمن والعقل السائد·· تتحوّل في العرض الهواجس وكل القلق إلى مساءلة بين الذات وذاتها·· يتحوّل الجمهور إلى متلصص على نفسه، ويتحوّل اللاعب (ة) على الركح إلى قرين يشبهنا ويضادنا في الآن نفسه·· هذا النوع من المسرح ينفذ إلى صلب التخريب المتخفي·· تجريب في الأداء، وفي توظيف الزمن الداخلي والإيقاع الذي يقودنا إلى عوالمنا الخاصة، عوالم الصمت والتأمل·· كانت العلاقة الثنائية والجدلية بين كيشوت والذي أداه باحترافية راقية فاضل عباس آل يحي وبانشو والذي أداه كمال زرارة بذكاء، تعكس كل دلالات التراجيديا الساخرة التي جعلت من عرض ''كيشوت'' عرضا ناجحا وجادا، عرف كيف يضيء جوانبنا الداخلية الحالكة بسوداويته المشرقة··· ثلاثة وجوه صنعت ''كيشوت'' شوقي بوزيد: مخرج هو من الوجوه البارزة للجيل الجديد من المسرحيين الذين اختاروا التجريب، اشتغل إلى جانب عز الدين مجوبي، معروف عنه ثقافته وجرأته في محاولة إحداث قطيعة مع من سبقوه من الخرجين· محمد بن قطاف: كاتب ممثل قدير اشتغل مع مصطفى كاتب ومحي الدين بشطارزي، يعد من أعمدة الفن المسرحي في الجزائر، خاض تجربة المسرح المستقل مع مجوبي وزياني وصونيا في مسرح القلعة، وخاض تجربة في المنفى قبل عودته إلى الجزائر ليكون على رأس المسرح الوطني. فاضل عباس آل يحيى: بطل كيشوت هو من الوجوه البارزة للجيل العراقي الجديد، اشتغل مع المخرج الكبير الراحل قاسم محمد، وهو إلى جانب قدرته الفائقة في التمثيل، قام بإخراج عدة مسرحيات تتسم بالتجريب ومحاولة تجاوز راهن التجارب المسرحية العربية.