أن تولد وتعيش وتموت.. دون أن يتسرب من كيانك ضوء تبصر به نفسك.. ويراك به الآخرون.. فأنت مواطن عربي. وأن تأتي إلى هذا العالم وترحل عنه كما جئت.. دون أن تلقي حجرا في وجه من يريد إذلالك.. فأنت مواطن عربي صالح. أما أن تجتنب التفتيش في دفاتر السلطة ولا تعنى بالتحري في يوميات السلطان: ماذا يأكل؟ كيف يحلم؟ متى يغضب؟.. ثم تفترض أن كل شيء على ما يرام.. فأنت مواطن عربي بامتياز.. ليس كمثلك شيء.. من المحيط إلى الخليج.. هل تدري لماذا تستبدل إسرائيل أسيرا يهوديا واحدا بألف عربي أو أكثر؟ لأنها تعتقد أن الأرقام العربية تخالف كل قوانين الحساب المتعارف عليها.. فعند العرب وهم الذين اخترعوا الصفر وأضافوه إلى بقية الأعداد يمكن للمليون أن يساوي صفرا.. ويصبح الجزء أكبر من الكل.. ويكون الواحد الذي يحكم (بفتح الياء) أكبر من الملايين التي تحكم (بضم الياء). تغرق عبارة مصرية في البحر الأحمر.. فيهلك ألفان.. فلا يعد ذلك شيئا.. وتقتل سائحة فرنسية في ظروف غامضة.. فتنزل المصيبة على رأس الحكومة.. وتستنفر الأجهزة الأمنية .. وتنتفض الدعاية الرسمية ضد المتهم المجهول.. وأحيانا ضد الإرهاب الأعمى.. المعنى واضح بكل تأكيد: أن تكون مواطنا عربيا.. يعني أنك مجرد رقم في التعداد العام للسكان... فرد ضمن قطيع كبير يعد بالملايين... ويتشابه أفراده كما تتشابه كائنات النوع الواحد في البرية تموت تجوع تبكي تسجن منفردا تغتالك إسرائيل تخطفك أمريكا لتضعك في زغوانتاناموس.. فذلك لا يعني للحكومات العربية شيئا... أنت مجرد نسخة مكررة في سجلات المواليد والوفيات. لست ذاتا... بل محض مخلوق بيولوجي.. تنموكالشجرة.. وتموت كالحشرة.. تقطع بفأس الحطاب.. أوتداس بحذاء حارس الغابة.. وأنت جنين في بطن أمك.. يقرر الحاكم من تكون. وكيف يكون شكلك الخارجي.. ومن يقطع لك حبل الصرة.. وما هومقدار الهواء المسموح لك باستنشاقه.. وأين تدفن حين تموت. المواطن العربي إن كان موجودا أصلا بهذا العنوان كائن جيري.. أليس يصب منذ البداية في قالب السلطة ليتشكل كتمثال يتحرك.. السلطة تنحت المواطن من المهد إلى اللحد... والمواطن المنحوت لا يجتاز طول حياته حدود أصابعها.. أليس مملوكا للحاكم.. من أم رأسه إلى أخمص قدميه؟ لا يوجد مواطن عربي يتصرف بحرية في حركة أعضائه الداخلية والخارجية.. أويملك تغيير جزء من تشكيلته النفسية والفكرية.. وهوإن حاول فعل ذلك.. اتهم بتغيير خلق الله.. أليس الحاكم إن شاء أحياه، وإن شاء أماته.. إن شاء قبله، وإن شاء نفاه إلى الربع الخالي.. في لائحة أملاك السلطان ملايين المماليك.. وكل النساء العربيات ينذرن أولادهن للحاكم.. وهؤلاء يكبرون جميعا في خدمة المعبد الرسمي. أن تكون مواطنا عربيا.. فهذه منة من الحاكم.. فهووحده يحميك في الداخل والخارج...ويطعمك ويسقيك... وكل نعمة تصيبك هي منه دون سواه.. محكوم على هذا المواطن المسكين أن يظل طافيا على السطح. بحكم قانون الطفوالذي تصدره السلطة.. يتحرك المواطن العربي على سطح الماء.. ولا يتسنى له الغوص لمعرفة ما في الأعماق. ما تحت الماء محمية السلطان وحده.. فيها يمارس هواية صيد السمك.. وجني اللؤلؤ والمرجان. العالم السفلي.. حيازة سلطانية مائة في المائة.. وليس لأحد من الرعية الاقتراب منها..ولوبغرض السياحة. وكما هي علاقته بالماء... كذلك هي علاقته بالسماء. هو ممنوع من التحليق.. فالمواطن العربي كائن أرضي.. لا يتسنى له بسط جناحيه في الفضاء ليطير.. فليس له أن ينظر من أعلى.. فالحاكم وحده يطل على الناس.. ويحيي الجماهير التي تنظر إليه بشوق.. أملا في الفوز بنظرة منه. في أكثر من مناسبة..حاولت أن أرسم إطارا لحدودي كمواطن عربي.. فلم أستطع. لم أعثر على كيان حقيقي أدعي أنه لي.. وأن بإمكاني اللعب داخله. كنت أجد نفسي محتجزا في قفص مغلق من المعدن الثقيل.. إلا من كوة بحجم ثقب إبرة.. أنظر من خلالها كي لا أرى شيئا. أنا لا أختار من يحكمني.. ولا من يضربني دون سبب.. أويشتمني دون سبب.. ولا أجد في لائحة المباح التي تلتصق بي كالغراء طول حياتي.. أن ارفض أوأصرخ أوأسافر دون تأشيرة .. أوأجلس في زاوية نائية دون رقيب.. أو أتكلم دون أن يعتقل لساني وتفرض عليه الإقامة الجبرية... أو تقرر نواياي الحسنة السفر خارج أحلام السلطان دون أن يلقى عليها القبض بتهمة التسكع دون إذن مسبق. هكذا أنا.. أنموبغير هوية إنسانية واضحة المعالم.. وأتقبل قدري السياسي مهما كان قاسيا أو بغيضا... ولا أتمتع بأية حصانة ضد التعسف والقهر.. وضد هؤلاء الذين يقوسون ظهري كي لا أسير مستقيما .. لأرى ما يقف أمامي• أبحث عن جنسيتي... وما يعنيه انتمائي لوطن يقولون لي إنه وطني.. فلا أعثر على أكثر من حفنة تراب أدفن فيها.. وما عداه فمناطق محرمة.. وحقول ألغام تتربص بجسدي.. وأشواك تحفر في قلبي. هل تصدقون أن القبر هوالوطن الفعلي لكل مواطن عربي بسيط.. أليس هوالبقعة الوحيدة على وجه الأرض التي لا ينافسه فيها أحد.. ولا يحاول أي سمسار انتزاعها منه.. وأن بإمكانه النوم فيها دون أن يخشى على جسده من اللصوص والمجرمين .. ولا يدفع مقابلها ضريبة إقامة، نحن المواطنين العرب.. ندفع ثمن تذكرة المواطنة .. لكننا نظل في المحطة ننتظر قطار الوطن الذي لا يأتي. غير أن العزاء لي ولكم ممكن. ثمة وطن لا يقتحمه علينا أحد .. وهوخالص لكل واحد منا يريد ذلك. بل إن لدينا من مفاتيح الأوطان ما لاحصر له. من ينظر داخله يجد وطنه.. بل يجد ما لا يحصى من الأوطان.