يقول غوستاف لوبون في كتابه الأمس واليوم: الكفاءة من دون سلطة شبيهة في عجزها بالسلطة من دون كفاءة، ويقول أندري دوشونييه في كتابه خطابات في الافتراء: اللاعدالة تعلي دوما روحا حرة وفخورة. عندما ننظر إلى حملة الاعتقالات التي مسّت مؤخرا وجوها اعتادت تقلّد المناصب السامية، أو تلك التي كوّنت لنفسها ثروات طائلة بطرق مشبوهة، ونتمعّن في التهم الموجّهة لهم ندرك حجم الكارثة التي حلّت بالبلاد في ظل العهدات الأربع لحكم بوتفليقة، ومدى ارتياح الشعب من التخلص منهم. لقد توقّع الكثير من المحلّلين عندما وافق الرئيس المنتهية عهدته على قبول السلطة على أنه أتى لينتقم من الشعب لكونه لم يسانده أثناء إبعاده في 1979 من التربع على سدّة الحكم وتعيين الشاذلي بدلا عنه، خاصة وأن السلطة آنذاك بدأت تضيّق على حركاته لدرجة أن مجلس المحاسبة في 03 أوت 1983 اتهمته باختلاس أكثر من ست مليارات سنتيم. وعلى هذا الأساس لا نتعجب رفضه للسلطة في 1994 عندما عرضت عليه أول مرة لكونه على علم بأن الأوضاع خطيرة وتتطلب جهدا كبيرا لإيجاد صيغة توافقية تخمد نار الفتنة، ففضل البقاء كمشاهد للجزائر وهي تحترق، في حين أنه عندما ظهرت بوادر الحل بقانون الوئام المدني الذي عمل زروال على وضعه، قبل بوتفليقة تسلّم السلطة وسعى جاهدا على أن تنسب المبادرة له وعلى أنها من نتاجه الخاص مغيّبا كل الجهود التي بذلت من قبل المؤسسة العسكرية تجت إشراف زروال لحل الأزمة، وعوض أن ينسحب في الانتخابات الرئاسية التي ترشح لها في 1999 أسوة بالمترشحين الآخرين، فضل مواصلة المسيرة لوحده غير آبه بمصداقية تلك العملية، فالشيء المهم عنده أن يسجل في الانتخابات رقما أعلى من ذلك الذي حقّقه زروال وكان له ذلك. لقد ولّدت في نفسيته عقدتين عقدة إزاحته من على كرسي الرئاسة وعقدة الشرعية التي نزعها عنه المترشحون الآخرون، فما كان له إلا الانتقام على طريقته، وذلك بخلق أسوأ نظام شهده العالم، عن طريق نشر كل القيم الفاسدة، من جهوية وعنصرية وتفرقة بين المواطنين بتشجيع النعرات القبلية، وغض النظر عن النهب والاختلاسات التي تقام في محيطه، والعمل على تحطيم كل المنشآت القاعدية التي بنيت منذ الاستقلال، إذ أتى على ما تبقى من التعليم والصحة والصناعة تحت ذريعة الإصلاحات، وما زاد الطين بلة هي تلك الطفرة النفطية التي شهدتها عهداته الأولى الأمر الذي جعل الجزائر مرعى ينشط فيه الفاسدون من كل حدب وندب حيث تسنّ القوانين بالمقاس لتوزيع الغنائم بينهم. لكن كيف وصلت الأمور إلى هذه الحالة؟ لقد بنى حكمه على العبثية في التسيير، إذ لا تهمه مصلحة البلاد بقدر ما يهمه المكوث على كرسي الحكم، لذلك أول شيء قام به بعد تقلّده السلطة هو تعيين أفراد أسرته من إخوة وأخوات مستشارين له، ثم أتى بزملائه من القرية التي ترعرع فيها في صباه وجعلهم في مناصب وزارية غير آبه لا بمستواهم العلمي ولا بكفاءتهم في التسيير، وسنّ القوانين التي تحميهم من كل متابعة قضائية الأمر الذي فتح لهؤلاء الأبواب على مصراعيها، فقاموا بتقسيم الكعكة على أسرهم وعلى أقربائهم وأصدقائهم ، وساهموا في خلق امبراطوريات تحتكر التجارة الخارجية، والصفقات العمومية، غير آبهين بالخسائر التي يكبّدونها للخزينة العمومية سنويا. ومن مظاهر التسيير العبثي سنذكّر ببعض القرارات التي اتخذت بشكل ارتجالي، سجّلها التاريخ وتبقى وصمة عار على جبين السلطة المتساقطة: عندما قام بوتفليقة بزيارة ميناء الجزائر، لاحظ خروج العديد من السيارات من باخرة قادمة من فرنسا، فتساءل عنها فكان ردّ مرافقيه أنها عبارة عن سيارات استوردها المواطنون الجزائريون، فجاء ردّه تلقائيا على أن هذا الأمر لا يجب أن يستمر، فما هي إلا أيام حتى منع الجزائريون من استيراد السيارت التي يقل عمرها عن ثلاث سنوات على الرغم من أن الخزينة كانت مستفيدة من الضرائب التي يدفعونها لها، وفوق ذلك لا تتحمل البنوك أدنى سنتيم من العملة الأجنبية، وفي المقابل سمحوا لكل من هبّ ودبّ استيراد السيارات بمختلف العلامات المعروفة منها وغير المعروفة، فكان النزيف المعروف للعملة الأجنبية، ما أدى إلى امتلاء الحظيرة الجزائرية بسيارات خردة لا تراعى فيها أدنى شروط السلامة فشكّلت خطرا على الجميع. تحدث مرّة عن صوامع المساجد، قائلا بأن الطابع المغاربي يجعلها مربعة وليس دائرية، فما كان للوزارة آنذاك أن سنّت قانونا يمنع بناء الصوامع الدائرية ويفرض عليهم بناء الصوامع المربعة، وما خلقه من مشاكل بالنسبة للمساجد التي شرع في بنائها أو تلك التي كانت على وشك الانتهاء. عندما مسح ديون الفلاحين، في حقيقة الأمر مسح ديون الأباطرة الذين استفادوا من الملايير من القروض في استيراد البقر والمعدات الفلاحية، بينما لم يستفد الفلاحون الحقيقيون من أدنى إعفاء، ولكم أن تلاحظوا الآن قيمة الجرارات والمعدات الأخرى التي تستلزم لخدمة الأرض، وكأنهم يدفعون بالفلاحين إلى ترك مهنتهم والتحول إلى أداء مهام أخرى غيرها، بينما باع الأباطرة المستفيدون من مسح الديون جميع ممتلكاتهم ليتحولوا إلى حرفتهم الحقيقية: التجارة. عوض أن يُستقدم المستثمرون لتفعيل عجلة الصناعة في الجزائر، نلاحظ قدوم دفعات من الأمراء الخليجين للصيد في المحميات الطبيعية الصحراوية، وتحت حماية أمنية مشدّدة، حيث عاثوا في الغزلان والطيور والفنك فسادا، فهل نسمي ذلك استثمارا؟ أم ردّ جميل؟ في عهدات بوتفليقة لم يسبق وأن توبع أيّ وزير أمام القضاء، على الرغم من الفضائح المدوية التي تناولتها الصحافة الجزائرية وحتى العالمية، بل على العكس، ظل هؤلاء الأشخاص محميين من قبل الرئاسة، وعدّلت القوانين حتى لا يسمح لأيّ شخص بمتابعتهم، الأمر الذي كرّس دولة اللاعقاب، وساهم بشكل كبير في تسريع عجلة نهب المال العام، بحيث أضحى الفساد معيارا مهما لتقلّد المناصب السامية، فعدة مشاريع استنزفت أضعافا مضاعفة من قيمتها من دون محاسبة أيّ طرف، نحو الطريق السيار، الطريق السريع عبر الصحراء، نقل المياه من عين صالح إلى تامنراست، المسجد الأعظم، السدود… . وحتى ينفلت الأباطرة الصغار من العقاب مكّنوهم من تولي المقاعد البرلمانية لتحصين أنفسهم، فظهرت إلى العلن ظاهرة شراء المقاعد وأصبحت وكأنها شيء عادي يمارس علنية مثله مثل الأموال الطائلة التي تجمع وتصرف في الحملات الانتخابية الرئاسية دون أدنى احترام للقوانين المسيرة لها، طالما وأن المانحون سيغنمون من وراء تبرعاتهم أضعافا مضاعفة في شكل صفقات بالتراضي. وعندما تهاوت أسعار البترول، وحتى لا تحدث صدمة اقتصادية شبيهة بتلك التي وقعت في الثمانينات من القرن الماضي أو أكثر خطورة منها، اهتدوا إلى فكرة طبع النقود، بحيث أنهم لغموا بذلك مستقبل اقتصاد الوطن، وهم على يقين بأن الدينار ستتهاوى قيمته، وستنضم جيوش أخرى من المواطنين إلى صف الفقراء، وهذا هو هدفهم، أليسوا هم القائلين: جوع كلبك يتبعك؟ وعبثية التسيير لا تتبناها الرئاسة فحسب، بل حتى المعيّنين في المناصب العليا يظهرون عبثيتهم في التسير من خلال تصريحاتهم الغريبة التي تظهر حقدهم الدنيء إزاء الشعب والوطن، فالحديث عن الفقاقير والياوورت وتشبيه الشعب بالكلاب، وإمكانية مواجهتهم بالكلاش، أو الافتخار علنا بالدراسة مع ميركل، وبأن الجزائر أحسن من الدول الأوربية وسب الشعب بعبارة: يلعن بو اللي ما يحبناش…وغيرها من التصريحات، تعبّر عن المستوى المتدني لقائليها، وتبيّن مدى اللامبالاة التي يتمتّع بها هؤلاء المسؤولين إزاء مناصبهم الحساسة، والآثار التي ستترتب عنها أقوالهم، ألم يقل أويحيى في 11 فيفري 2019 لأحد صحفيي التلفزة الفرنسية بأن الشعب جد سعيد بترشح بوتفليقة لعهدة خامسة ! لقد عبّر عن حبّه الشديد بحراك 22 فيفري ! لذلك فنحن الآن لا نتعجب من طبيعة الوافدين الجدد إلى سجن الحراش، أو الذين سيلحقون بهم، فتسييرهم العبثي كان علنيا، لأن المناصب التي تقلّدوها لم تكن نتيجة لكفاءتهم بل لولائهم، ولم ينظروا البتة إلى مهامهم على أنها تكليف، بل على أنها وسيلة للاغتناء، لذلك لم يكترثوا لا لنصائح القلّة التي كانت تحذرهم من العواقب التي تترتب عن ذلك التسيير، ولا عن الاحتجاجات التي كان يقوم بها أفراد الشعب للتعبير عن سخطهم من الأوضاع التي وصلت إليها البلاد. ونحن الآن مع الجمعة السابعة عشر للحراك، لا يزال الشعب يطالب بتأسيس جمهورية مدنية يتولى تسييرها الكفاءات وفق القوانين لا الأهواء الشخصية، فهل سيتعظ المسؤولون القادمون؟ أم أنهم سيسيرون على نفس خطى أسلافهم؟ لنترك التاريخ، فهو الذي سيقدّم لنا الإجابة الوافية.