صدر للباحث الجزائري، مصطفى بن حموش، كتاب «دار السلطان» باللغة الفرنسية، يستعرض خلاله مقاطعة الجزائر في العهد العثماني،ا من حيث لإدارة الحضرية والتهيئة العمرانية» تاريخ مدينة الجزائر التي أصبحت عاصمة لإقليم المغرب الأوسط والذي ارتبط بالخلافة العثمانية في إسطنبول منذالعام 1516، وقد أطلق عليها اسم دار السلطان لكون مقر إقامة الحاكم الجهوي للخلافة العثمانية المسمى باسم «الجنينة» والذي بسط حكمه على الإقليم الممتد ما بين تونس والمغرب حالياً. ويهدف الكتاب إلى إعادة تشكيل نسيج المدينة الحضري وجهازها الإداري وتركيبتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي فقدتها اليوم. وهو يتبع بذلك منهج كتب الخطط التي اشتهرت فيالأدب العربي الإسلامي من جهة، ويستجيب لمنظور التخطيطالعمراني الذيينتمي إليه الكتاب في الأساس. وتبرز أهمية الكتاب بالنظر إلى ما طرأعلى المدينة من تشويه ومسخ خلال عهد الاحتلال الفرنسي الذي بدأ العام 1830،وامتد إلى ما يقرب من قرن وربع من الزمان؛ إذ تعرَّض الكثير من المبانيإ لى الهدم والتغيير والمعالم إلى الطمس والتركيبة الاجتماعية والاقتصاديةإلى التغيير الجذري. ولم تستعد المدينة عافيتها بعد الاستقلال. بل إن تآكلها وانهيارها التدريجي استمرا بسبب الإهمال الإداري من جهة، وضغط الاستعمال الذي تجاوز طاقتها الاستيعابية، والذي أساء أكثر إلى ما بقي من معالمها. ولذلك فإن الكتاب يعيد عن طريق الدراسات الأكاديمية الموثقة شكل المدينة الأصلي باللجوء إلى الأرشيف العثماني للمحاكم الشرعية من جهة، وإلى الخرائط الطبوغرافية الأولى التي قامت بها الإدارة الفرنسية المحتلة، ثم إلى بعض الأوامر السلطانية التي اكتشفت في الأرشيف العثماني باسطنبول، وفي الأخير إلى ما بقي من النسيج العمراني القائم حالياً. ويستعرض الكتاب بداية إلى الجهاز الإداري والقضائي الذي كان يدير المدينة خلال العهد العثماني. فبعكس ما تروج له بعض الدراسات الاستشراقية من فقدان معظم المدن العربية والإسلامية إلى أجهزة إدارية تدير وتوجه وتراقب العمران، فإن مدينة الجزائر في العهد العثماني كانت تدار بهيكل إداري رأسه الحاكم الإقليمي - الباشا -، ثم الجهاز الإداري الذي عرف باسم الديوان، وكذلك بالجهاز القضائي التشريعي الذي عرف باسم المجلس العلمي الذي كان يضم كلا من قضاة وفقهاء مذهبي الأحناف والمالكية. وفي أسفل هذا الهرم الوظيفي كانت هناك الكثير من الأجهزة الإدارية الأخرى مثل شركات الأوقاف، وبيت المال،والمواريث المخزنية، ومؤسسات شيخ البلد، والحسبة وأمناء الأسواق، وقائد الفحص المكلف بمراقبة الضواحي خارج الأسوار، وممثلي الأحياء السكنية والطوائف العرقية. ولم تكن الأحياء السكنية مفتقرة كذلك إلى التنظيم كماتوحي هندسة نسيجها المعقدة، والتي زادتها طبوغرافية الموقع تعقيداً بسبب الانحدار الشديد نحو البحر. فقد كانت المدينة تنقسم بداية إلى منطقتين طبوغرافيتين هما الوطأ المحاذية للبحر والمخصصة للأسواق والمرافق العامة،ومنطقة الجبل التي كانت تضم ثلاثة وعشرين حياً سكنياً عرف كل باسمه وبمعالم عمرانية بارزة مثل عيون الماء والمساجد. وقد تم تحديد أماكنها بالاعتماد على نظم المعلومات الجغرافية وقراءة وثائق الملكيات والأوقاف واللجوء إلىالخرائط القديمة. فقد عرف من خلال هذا التحديد مواقع كل من أحياء الجالياتالأندلسية واليهودية، والتركية، بالإضافة إلى أحياء السكان العرب والبربرالأصليين أو القادمين من المناطق الداخلية للمغرب الأوسط. كما خضعت الأسواق والحرف لمنطق التوزيع نفسه؛ حيث كانت كل حرفة تختص بموقع خاص لهايقوم الأمناء والعرفاء بالإشراف عليها ومراقبتها استجابة لمبدأ الحسبةالإسلامية. ويقدم الكتاب جهداً يرمي إلى إعادة تركيب النظام التسلسلي للأسواق اعتماداً على وثائق المحاكم الشرعية والأوقاف عن طريق تحديد أماكنالدكاكين والمرافق التجارية المغلقة مثل الفنادق والقيصرية. وقد كان لمخطوط أبي نصر الشيزري في «الحسبة على الأسواق» ومخطوط «عوائد السوق» أثره فيتوجيه البحث في هذا المجال ودراسة مدى مطابقة التوزيع الطبوغرافي بمتطلباتالحسبة الشرعية. ولم تكن أعمال البناء والمعمار بعيدة عن هذا المجال الإداري. فقد كان البناؤون وأصحاب الحرف المتعلقة بالبناء والعمران مثلالحجارين والجيارين ينتظمون في طوائف حرفية يستعان بها في تنفيذ المشاريعالعامة والخاصة. وقد ساعدت مختلف مصادر الأرشيف العثماني في التعرف علىمراحل تنفيذ المشاريع وطرق إنجازها. فقد كانت تموّل من قِبل بيت المال وتنفذ في غالبها - وخاصة أوائل العهد العثماني - بسواعد العبيد المسيحيين الذي سقطوا في الأسر نتيجة الصراع البحري بين العثمانيين والصليبيين على التحكم في الطرق التجارية بالبحر الأبيض المتوسط. وقد حددت الكثير من تلك المشاريع المعمارية المنفذة على خريطة مدينة الجزائر، والتي لاتزال بعضشواهدها قائمة إلى يومنا. لقد كان لسقوط الأندلس أثره العميق على عمران مدينة الجزائر وضواحيها. فقد نزح الكثير منهم من مدنهم الأصلية مثلشاطبة وبلنسية ودانية وطرطوشة وبعدها إشبيلية وغرناطة وقرطبة إلى سواحل إفريقيا الشمالية وسكنوا مدناً قائمة مثل الجزائر ووهران أو مندثرة مثلشرشال، أو جديدة مثل البليدة والقليعة. ورب ضارة نافعة؛ حيث نشطت حركة العمران في منطقة المغرب الأوسط نتيجة هذا النزوح الديموغرافي الأندلسيالمكثف. وقد أظهرت لنا تجربة العثمانيين في إيواء النازحين براعة واضحة فيإدماج المهاجرين الأندلسيين سواء في الديار العثمانية بالأناضول أو في الأقاليم العربية عن طريق إنشاء مدن جديدة وإقطاعات واسعة للنازحين. لقد ساهم تواجد كل من العثمانيين و الأندلسيين في أرض المغرب الأوسط التي سكنها العرب والبربر إلى دفع الفن المعماري إلى حال من الإبداع نتيجة تمازج الطرز المعمارية المتنوعة. فقد جاء الأندلسيون بفنيات معمارية عالية، تواكبت مع استلام العثمانيين الحكم في المنطقة، ومباشرتهم تنفيذ مشاريع كبرى وفق الطراز المشرقي؛ ما أدى بالإضافة إلى الطراز الإفريقي المحلي إلىبروز ما يشبه مدرسة معمارية متميزة تجمع بين قباب إسطنبول وأنواع القرميد الذي اشتهرت به مدن الأندلس. وفي ضوء هذه الحركة العمرانية الواسعة نتيجة النزوح الأندلسي عرفت مدينة الجزائر، على رغم طبوغرافيتها الوعرة توسعاً هائلاً انتهى باستهلاك كل أراضي الهضبة التي تقوم عليها المدينة والتي تطل على البحر. فقد ارتفعت كثافتها السكانية إلى أقصى حد ممكن بلغما يناهز المئة والخمسين ألف نسمة على رقعة لا تزيد على خمسة وأربعين هكتاراً. وقد أدى ذلك إلى إعادة سور المدينة بطريقة ناجعة وقوية كانت كافية لأن ترد هجومات الحملات الصليبية المتتالية خلال القرون الثلاثة والتي لمتنكفئ إلا باستلام المدينة العام 1830 على يد القوات الفرنسية، بعد طردالعثمانيين منها، وتدلنا الخرائطالطبوغرافية ووثائق الملكيات على مراحلالتخطيط العمراني. فقد توسعت المدينة تدريجياً في شكل حلقات زيتية ابتداءمن نواتها الأولى كقرية صغيرة إلى تحوّلها إلى مدينة رئيسية تطل على البحرالأبيض المتوسط وتهيمن على شاطئه الغربي بأسطولها القوي لمدة ما يقرب من ثلاثة قرون، وعلى رغم ما يعرف به العثمانيون من غلظة، فإن تجربتهم في تطويرالمدينة وتوسيعها كفيل بأن يعطي للمعماريين والمخططين درساً في المنطقا لعمراني وإنشاء المدن وإدارتها