هاجسه الصورة الغريبة و التحلل الصوفي في مسارات التمزق الذاتي في ظل التيارات الوافدة ، لم تكن الفكرة في بداية الأمر مجرد رصد للمشاعر و حشد لفيض التجربة ، فكانت النتيجة الالتزام بالتجربة الشعرية على غرابة عناصرها و تنافر المحيط أفقيا و عموديا ، المسار الذي اختاره الشاعر كان مجرد إحساس بالرغبة ليأتي فيما بعد الاكتشاف ، و كأنّ قدر الشعراء التململ في غيابات الألم و التصادم مع المدينة التي يراها حزينة حتى في الركب الذي استوقفه وا للحظات المشوبة بالتأمل المركز و المعاناة التي لم يبدها صراحة ، و ظل يقاتل شبح الغربة حتى في هجيع الليل الساكن الصاخب في داخله و لو في أحضان الوطن ، الحديث عن الذات لم يأت من قبيل التوقيع السطحي لسيرتها بقدر ما يعني التوجه نحو عمقها و البحث عن أسرارها و الوقوف عند أسباب ضياعها المستمر و يقابله في الوقت ذاته أسئلة كثيرة ، في قصيدته ) عزوز( المرحلة التجريبية ، مرحلة لتفحص مواقع الذات و تحديد مرتكزاتها الغائبة في وسط صراعات تشابه فيها الموحش مع الأيلف و لم يعد سهلا التمييز بينها إلا بالمواجهة ، وظف الشاعر كلمات فاعلة / ك : الوطن / الحزن / الطيف / الليل / الجرح / البحر/ الغضب /المواجع /، الصورة واضحة في تلاقي هذه الكلمات المتعاقبة : وهج الليالي إذا ما الحزن يبديه * أم طيف جنة بت الليل أحكيه جنات عدن أم الجنات يا وطني * تنأى بعيدا تزيد الجرح تكويه قد قيل ولى زمان الحب يا وطني * فكيف ، كيف أداري الجرح أخفيه بالرغم من التدرج الذي اختاره الشاعر للاستمرار في بث قناعته و موقفه من الواقع ، لم يكتف بهذه المشاهد ، و صبّ كل أحاسيسه في اتجاه واحد ، ربما العملية كانت أفضل مادام اختياره لهذا الاتجاه يشعر من خلاله برضا النفس و تشبثها بهذا المسلك على الرغم مما هو محفوف به من مخاطر رهيبة قد تفقده بعض قناعاته التي يأمل من خلالها الوصول إلى النهاية المرتقبة و تعدي الحواجز و العقبات التي أرستها الذات ذات يوم و هي محاصرة بالتزامات صعبة ، الركون إلى القيود أصبح أحد المستلزمات التي ينبغي ألا يتعداها بحكم طبيعة الأشياء التي يتعامل معها و باستمرار ، و كون طبيعة الموقف الذي تصلب له لا يسمح له بالتفكير أكثر مما هو فيه ، نصب لذاته محاكمة قد لا يتحقق معها ما يسمى بالحياد الجنائي أو الموضوعية و الاعتراف الجواني ، لم تكن الحقيقة بادية ولو كان شعوره أقرب إلى اليقين الذي تخيله يقينا و ألزم نفسه به و ظل عالقا بكل متاهاته : يا قاضي العشاق جئتك شاكيا * من حب أنثى هيجت أوجاعيا سأظل دوما كالطيور محلقا * أرمي جناحي فوقها متساميا نظرت إلى القاضي فأرسل بسمة * فعلمت أني سوف أرجع باكيا إذن لم يكن الشاعر محظوظا مادام فعل التردد قائما في ذاتما جاثما في مكوناته الداخلية و قناعته لا تسمح له بالمضي إلى إلى سبيله و كل الأشياء التي فسرها تكاد تكون غامضة و ليست في المتناول و بعدها عن الحقيقة بات وشيكا مع صعوبة مسالكها و كثرة الالتواءات و المتاهات ، في الواقع أراد اشاعر أن يفلسف طبيعة الأشياء من باب تحديد هويتها و عدم الاكتراث بالمصاعب ، في إعتقاده سهلة و أنها تزول بفعل دورة الزمن الحادث ، و كل الأشياء في قرارة نفسه تنتهي عادة بانتهاء دورة المتغيرات النفسية و لو أن التكيف معها يقتضي التضحية و الهروب قد يعتبر من بين الحلول الحاضرة في النفس و الذهن و هو عادة مسلك المقهورين أو الحيارى من الانسانية التائهة في عالم انقلبت فيه محددات القيم رأسا على عقب ، و امتلكت النذالة كبديل مكان الفضيلة و لم تكتف بهذا راحت تؤنبها بالتخاذل و اعتبرت الحياة جهد مستمر تسقط فيها و معها كل القيود و المعوقات التي يعتقدها الاتجاه الجديد قمة السعادة أو مصدر التحرر و أوشك أن يتساوى الحزن و الفرح و تداخلت طبائع الأشياء و لم يعد هناك مقاييس ثابتة أو واضحة (نافذة) : أيُّ نافذةٍ تُفْتَحُ الآن لي، كي أشكلني نَبْضَهَا، كي تشكِّلني قَلْبَهَا كي نُشَكِّلَنَا قُبلةً للتَّوحُّدِ والانْتِمَاءِ وهذا المساءُ ربَّمَا يَمْنحُ العُمْرَ تذكرةً في مُتُونْ التَّوَهُّج والانصهارِ، ومرَّتْ على القلبِ سوسنةٌ تَرَكَتْ عِبْقَهَا ومَضَتْ، كي تفاجئني بالنَّدى. كل الصور تلاقت في هذا الاتجاه و الشاعر لم يتمالك نفسه في هذا الانهيار المفاجئ و لم يعد يقو على ترميم حطامه و تركيب ما انقسم من مرتكزات ذاته ، انتقل ليبحث عما يشدّ تفرقه الداخلي و يجعله يتماسك بما بقي له من هذا التمزق العميق ، و كأنّ النفس التي كان يحافظ عليها توشك على الانفلات دفعة واحدة ، كل الأشياء التي ركبها بداخله و أوهم في كثير منها بصلابتها و لكنها في لحظة ما تلاشت و بقي منها إلا الأثر يستأنس به ، يوهم نفسه ببقائه على تفاهة مابقي منها من حطام الذي تكدس في على المستوى البراني للذات ، الانعتاق الذي حلم به كرصيد للانبعاث و التجدد يفتقر إلى كثير من عناصر التجلد و التضحية ، الاصطبار و المقاومة و التحدي لم تعد من نصيبه كما كانت غير أنّه يعتقد بوجود منفذ في انطلاق روحه التائقة إلى التحرر و تنفيس الذات الحزينة ، الشرخ الذي أحدثه الاغتراب الداخلي و مصدره التألم و المعاناة و الغبن الغارق في عمقه حيث لاقه صد و تصلب في محيطه المركب من مختلف أنواع الإذلال و الهيمنة و التهميش و الاقصاء ، و الاغتراب الخارجي عدم توفرا عناصر الرضا و التكيف و التأقلم و التعايش مع الأشياء التي كانت مألوفة فأصبحت غريبة مستنفرة ، حيث من الصعب مراودتها بسهولة : في مُتُونْ التَّوَهُّج والانصهارِ، ومرَّتْ على القلبِ سوسنةٌ تَرَكَتْ عِبْقَهَا ومَضَتْ، كي تفاجئني بالنَّدى. هُوَ هَذَا المَدَى، وأنا أحْلُمُ بامرأةٍ تمنحُ القلب تذكرةً تمنح القلبَ معجزةً، كي تصيِّرهُ آيةَ هل هو تغير في الموقف ؟ ربما الشاعر لم يكن أمامه سوى الاعتراف و لم يكن عازما على هذا التغير الذي أجبر عليه فصارت كل الصور التي تراكمت في ذاته ملاذا لصهر كل الانحرافات الذاتية و إخراجها إلى عالم لم يكن في توقعاته أن يصبح ملزما و مجبرا على تصديرها من هذا الطريق و رغم ذلك استطاع أن يصنع شيئا توافقت فيه مشاعره مع المستجدات الخارجة عن الذات و تلك هي مشكلته الرئيسة في طرحه منذ البدء ، فديوان عزوز عقيل قد يبدو لك متنوعا من حيث تراص الممهدات لكنه في حقيقة الألآمر كل الألآفكار التي بثها فيه تصب في إيناء واحد و اتخذت اتجاها متكاملا على تنوع التجارب لأنّ المصدر متنوع و تشترك فيه مختلف الصور ، قد تبدو تجارب عاطفية أو لكنها لصيقة بأسباب الحزن و الكره و الحب و الخيانة و اىلظلم ، امتزجت في بوتقة واحدة و لم يعد الشاعر يقوى على فصلها و اكتفى بالترميز و رسم معالمها و لو مجازا من باب تقريب الأحداث في أقرب مكوناتها الكاملة و لما أودعها ، أةدعها بجروح غائرة حتى تلك التي تحدث فيها عن المناسبات السعيدة متظاهر ا بمشاركته للعالم في مختلف مناسباته و إدعاء اللطف و الهدوء و السكون بينما في قرارة نفسه متفجرات و ألغام موقوتة غير أنه أحسن إكامها و يتقن صوغها و السيطرة عليها بأسلوب ممتع تمازج مع لغة شاعرية ممتعة بعيدة عن كل نذالة أو سخط إلا في داخله ، بدت في كبرياء تعكس رزانة في شخصية الشاعر : على ضفة الجرح ، ناديتها إيه يا بلسم الروح يا منتهى المشتهى حرفها كالشذى ، يخرج الآن عكازه ألف ثم ميم وآخر حرف أنا لن أبوح به هاؤها للوقوف بداياتنا عسل للكلام وآخره جرح أنثى وما بين قوسين أفعى أنا أشتهيها نوع من الاستعادة للسعادة ، ما ورد في هذا المقطع يغني عن سريرة الشاعر ، كلماته تحمل صورا مختلفة من الرضا في حين الصدود عن الحقيقة و إكراه في البحث عنها جعله يكتفي بالتغني و مع ذلك بقي البحث مستمرا و لم يبح به تستر عن ذلك و لم يشعر بأنّه يفشي ما في نفسه من غير إذن لأنّ الإلحاح لم يكن من بإرادته ، لم يتفطن الشاعر لهذه الظاهرة غير أن ذلك يحتسب له كميزة فنية تخلص بها من التفاصيل التي تكشف عن كل أسراره و بالتالي يفقد كل مركبات ذاته و ربما هذا الاختباء و يخدمه النكران ، و اكتفى باستنكاره لكل معطيات الواقع الذي أجبر على ملامسته ، و أحدث في نفسه الخوف من الأشياء الظاهرة منها و قد رمز لها بعناصر من الطبيعة باعتبارها مصادر للموت و الفناء / الأفعى / مثلا ظهرت كعنصر مفاجئ في هذه القصيدة ، و عملية الاشتهاء منغصة في هذا الموقف مادام الاحتقان يزداد بفعل تقلبات الواقع و مؤثراته السلبية في اللاذات و الروح : إذا سيذوب الكلام ويبتلع الكون أسراره أشتهيها إذا ستغني العصافير يرقص في حقلنا الورد يفتح شباكه للجنون الجميل أنا أشتهيها إذن سأموت وفي القلب تذكرة للرحيل اجتمعت في هذا المقطع التيه و الضياع و امتزجت فيه مرة أخرى صور الطبيعة التي تحولت في نظره إلى عالم غريب و مريب و مصدر خوف يحبس الأنفاس ، تنقطع فيه كل السبل التي انتظرها منذ اللحظة الأول و لم يعد يستطيع العيش من دون متنفس كما ألفه في ذاته في كل مرة ، لحظات الانتظار مستمرة مع الذات و توقعات تغير العالم ممكنة و في كل مكان و زمان مادامت العلاقات البرشرية لم تبن على قواعد صحيحة و سيطر عليها بوتوكولات النفاق و التظاهر بالجمال و المكونات محشوة بالزيف و الكذب و الحزن و حتى عدم الرضا عن الذات أو النفس و العقل يسايرها بحتمية و سلبية و يذكر هذا الموقف بمقطع من قصيدة للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي عبر عن حزنه منذ عشرات السنين يبكي ما آلت إليه علاقاتنا ببعضنا البعض، أفرادا وجماعات وشعوبا : أحلم يا مدينتي فيك بحب هادئ يمنحني الراحة والإيمان أحلم يا مدينتي فيك بأن نبكي معا إذا بكت عينان بأن أسير ذات يوم قادم تحت نهار يسعد الإنسان هذه مقاربة بين تفكير الشاعر عزوز عقيل و ما ورد في قصيدة أحمد عبد المعطي حجازي ، و نفهم من هذا : الانهيار الإنساني الذي آل إليه وضع المزري ، و من قبيل رسالة الشاعر لم تكن فكرة الشاعر الوصول إلى المجد الذي يحلم به كثير من الحالمين على الرغم من اهتمامه بوضع المجتمع و الذي يتوق إلى مصاف اللاسعادة و المجد و هو واحد منهم ، فطموحه مشروع لكن لا يشوبه زيغ أو غرور و هي صفة يعرف بها الشاعر حتى في حياته العادية و قد صنف وجهة نظره في شكل محطات كما يفضل أن يسميها في مجموعته اللاشعرية و قد امتزجت فيها روح الدعابة و التواضع يمتلك بها على أفئدة القراء ، و من هذه المحطات : المحطة الاولى وحدها الساقية تعرف الآن سرك تعرف أحزانك الباقية والرحيل المفاجىء علمها كيف تسقى حقول البنفسج من دمعة حامية عادة المحطة هي المكان الذي يستقر فيه المسافر و الشاعر كان ذكيا في إيحائنا بوجود استقرار و لو مؤقتا يلجأ إليه الانسان ليحط فيه رحاله بعد تعب و شعث و غبر و مشقة السفر ، البحث عن المعرفة و اليقين من خلال ذاته و ذوات الآخرين ، في هذه اللارخي المفاجئ الذي لم يستأذن فيه ووجد نفسه مجبر لمتطاء المركب و تركه اللاشاعر غامضا ليشرك السامع مدى ما يلاقيه في سفره و يتخيل بمعية الشاعر ما يحدث في هذه التجربة اللاإختيارية في حياة الإنسان ، و المحطة الثانية : المحطة الثانية: من يحدثني يا ترى عن عيون المها عن عيون الحجل هكذا دون وعد ترحل يا أبتي في عجل إنّك تشهد فيها مختلف ما يلاقيه الإنسان الذي حياته كلها سفر فتتعدد تجاربه و تتناقض فيها المعطيات و القناعات و يبقى السؤال دائما مطروحا حتى النهاية و إن لم يجد لها الجواب : يقاسي فيه مختلف أنواع الألم و التوجع و التفجع صفات مستقرة مع مراحل الإنسان ، يذوق فيها مختلف أنواع الأسى و يشهد الحيرة كالطعنة الحادة ...الشاعر عزوز عقيل اكتشفت فيه التوجه الترميزي لطرح معاناة الإنسان بلغة بسيطة مفهومة على إيقاع الحداثة الجميلة التي تحدث عنها النقاد و مارسها الشعراء المحدثون في مختلف تجلياته البديعة ، اختيار في الواقع ينمّ عن خبرة جيّدة لم يصبها الغرور و تتألق بهدوء بعيدا عن الضعف تحاول تأسيس مشروعها في كل اتجاه ، خلاصة : بالإضافة إلى الشاعر يمتلك مقدرة سردية جميلة لا تخلو من لغة شاعرية أيضا ، له نص سردي منشور بعنوان : آخر الأشياء (يا آخر الليل توقف كي لا تراني العيون ... يا آخر الصمت أصرخ كي انتفض كانت عيون الليل تحرسني من وجع المدينة ونسمات آخر العمر تجيء محملة بكتابات عاشق لا يراني ، هم الجبناء أسقطوه من آخر الماضي كي لا يجيء هنا آخر الأساطير قالت يا ولدي للريح رائحة الجنة ، وللشعر تسبيحة من ثنايا الوجع ، عزوز يا ولدي موجة ، والبحر لم يعد مالحا ، تفاصيل الحكايا قالها شيخ مكث صامتا نصف العمر ، زينب كانت تعشق البحر تهوى الصمت تخاف الليل آخر الوجع لم يأت ، زينب قالت لذاك الطفل الراحل لن تعود وآخر الحكايا أنثى وبداياتك تهويمة عاشق ، زينب العمر يا ولدي لم تنم وسنابل القلب تحاصرها مناجل العمر . ) أعتقد أنّ الشاعر أصبح في رصيده ما يوصف بالأدوات الفنية على مستوى النظم و الطريق الذي سلكه الشاعران العراقيان بدر شاكر السياب و الشاعرة نازك الملائكة رحمهما الله ، و لعل هذا الذي سيجعل منه شاعرا بارعا كما تؤكد ذلك أعماله المتميزة ، فهو محسوب على شعراء الريف و المدينة و الوطن . أتمنى له التوفيق و دام مبدعا . بقلم سعيد موفقي * شاعر جزائري من مدينة عين وسارة ، إلى جنوبالجزائر العاصمة 200 كلم جنوبا