اقتضت حكمة الله عز وجل أن يبتلى الرسل بأممهم، والأمم برسلهم، والحكام بالمحكومين، والمحكومين بالحكام، والقوى بالضعيف، والضعيف بالقوى، والغنى بالفقير، والفقير بالغنى، والصحيح بصحته، والمريض بمرضه، والزارع بمزرعته، والتاجر بتجارته، والصانع بصناعته .. الخ. فالكل مبتلى كلٌ على قدر دينه. فعن سعد رضي الله عنه قال : سُئل النبى صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاءاً ؟ قال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان صلباً في دينه اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقه هون عليه ، فمازال كذلك حتى يمشى على الأرض ماله ذنب " (رواه الترمذى في الزهد ، وابن ماجة ، والدارمى، وقال الترمذى هذا حديث حسن ) (4) . وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وأن الله عز وجل إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط " (رواه الترمذى وحسنه ) (5) . فطريق الدعوة هو طريق الإبتلاء يقول ابن القيم رحمه الله : .. البلاء لابد له من صبر ... والصبر ثلاثة أنواع بها يكتمل الصبر: * حبس النفس عن التسخط بالمقدور . * حبس اللسان عن الشكوى . * حبس الجوارح عن المعصية ( كلطم الخدود ، وشق الجيوب ، ودعوى الجاهلية) . فإذا صبر الإنسان صارت المحنة منحة .. والبلية عطية .. والمكروه محبوب .. فالله عز وجل ما امتحنه ليهلكه ولكن امتحنه ليختبر صبره وعبوديته فإن لله عز وجل عبودية في السراء وله عبودية في الضراء وله عبودية على العبد فيما يكره كما له عبودية فيما يحب ، وأكثر البشر يعطون العبودية فيما يحبون ولكن تتفاوت المنازل عند الله الابتلاء ... لماذا ..؟ 1) ليميز الله سبحانه وتعالى الخبيث من الطيب .. وقد سئل الإمام الشافعي: يا أبا عبد الله: أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى ؟ فقال الإمام الشافعي: لا يُمكن حتى يُبتلى فإن الله إبتلى نوحاً وإبراهيم و موسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فلما صبروا مكنهم (32) . 2) للإختبار: قال تعالي : (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)(33) وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)(34) 3) والله يبتلينا لنرجع إليه بالتوجه والدعاء والذل والمسكنة "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتى وقلة حيلتى .. الخ" والصبر على محن الدنيا أهون من الصبر على محن النار (35) . إن الذين شرفهم ربهم بشرف القيام بالدعوة إليه عليهم أن يصبروا على إيذاء الناس لهم وعلى مقارعة الناس لهم ولا يكون ذلك إلا بالنظر في سيرة الأنبياء والمرسلين عز وجل والإقتداء بهم في مواجهة أقوامهم . فقد قال الله عز وجل لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم : (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) (37) . (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (38) . (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (39) الخلاصة .. أن الصبر نوعان : * اختيارى : (الصبر على الطاعة والدعوة كما مر في الآيات) . * اضطرارى (القدر المر) : مثل الصبر على المرض ، وعلى ألم الضرب، والجراح ، والبرد والحر ، وفقد الأولاد. والصبر الاختيارى أكمل من الاضطراري ، فإن الإضطراري يشترك فيه الناس برهم وفاجرهم .. مؤمنهم وكافرهم .. (44) واعلم أنه ما وصل من وصل إلى المقامات المحمودة والنهايات الفاضلة إلا على جسر المحنة والابتلاء. كذا المعالي إذا ما رمت تدركها --- فاعبر إليها على جسرٍ من التعب وقال المتنبي : تُرِيدِينَ إِدْرَاكَ الْمَعَالِي رَخِيصَةً *** وَلا بُدَّ دُونَ الشَّهْدِ مِنْ إِبَرِ النَّحْل