وإذا درسنا عقائد الإباضيّة اليوم على القانون الكلّي وقواعده وجدنا أنّ هذه الطائفة قد اجتمعت لها أصول الإسلام اعتقادا وتشريعا، وأنّ ما اختلفت فيه من المسائل مع غيرها من الطوائف التي صحّ انتسابها للإسلام لا يتعدّى الفروع. إنّ الإباضيّة قد اعتمدت على الصحيح الصريح الثابت من الأوامر الشرعيّة، واتّباع سنن صحابة رسول الله r.وأسس الإعتقاد والحكم عند الإباضيّة، الكتاب والسنّة والإجماع، وعلى هذه الثلاثة المعتمدة في الشريعة الإسلاميّة الحقّة، تبني كلّ العبادات والمعاملات، فحلالها حلال وحرامها حرام، لا هوادة في ذلك، ولا اختيار لأحد بعد ما جاء في هذه الأصول الثلاثة، ثمّ القياس ثمّ الاستدلال، وهم يقولون بالاستصجاب، والمصالح المرسلة، والعرف.وقد قدح من قدح في الإباضيّة بأنّهم لا يقولون بالإجماع، والحقيقة أنّهم يعتبرونه أحد الأصول الثلاثة فكيف لا يقولون به.وهذا أمر قد كتبه كثير من الكتّاب والمؤرّخين، ولكن الإباضيّة في معزل منه، فهو افتراء عليهم، وكتب فقهم موجودة وحاضرة، فلماذا لا يرجع إليها هؤلاء المفترون حتّى يحكموا بالحقّ والصواب، ولا يبنوا اتّهامهم على شفا جرف هار، لأنّهم بذلك سينهارون في جهنّم وبيس المصير.والفقه الإباضي فقه منفتح على غيره من المذاهب الفقهيّة، وهو في موسوعاته وكتبه الكبار يناقش ويرجّح ويستعرض أقوال الإسلام وأئمّته، ومن بين كتبه الكثيرة والمتعدّدة : كتاب شرح النيل وشفاء العليل الإيضاح قواعد الإسلام شامل الأصل والفرع طلعة الشمس وكلّ منصف عادل، ينظر إلى الحقائق بعين العقل، وليس بعين الهوى أو الميل إلى ناحيّة ما، فإنّه يدرك الفارق بين الحقّ والباطل، وبين هذه الفرقة وفرقة الخوارج التي ينسبها كثير من المغرضين إليها، ويدرك نهج الإباضيّة من بين سائر مناهج الأمم الأخرى.ولقد حاول كثير من المخالفين إلصاق كثير من الاتّهامات السيّئة بالإباضيّة من كلّ ناحيّة، غير مراعين حرمة العقيدة ولا العبادات التي تحملها الإباضيّة، وهي تقوم بها في واقع حياتها بدون أيّ زيغ عن الطريق المستقيم، ولا عن سنّة رسولنا محمّد r، وغير مراقبين أوامر ربّهم U، فكم من آية في القرآن الكريم تمنع مثل هذه الأحوال إجمالا وتفصيلا، وكم في سنّة رسول الله r من زواجر ونصائح ومواعظ.ولكن نقول لهؤلاء اتّقوا الله ربّكم U في أمّة تؤمن بالله واليوم الآخر، وتطيع الله U ربّها، وتتّبع سيرة رسولها محمّد r بكلّ موضوعيّة وحقيقة، بل هي تحتاط لدينها إلى أقصى ما يمكن من الاحتياط، وكلّ ذلك خوفا منها من السقوط فيما لا يرضي الله U أو رسوله r، وتطبّق سنّة نبيّها محمّد rتمام التطبيق، والذي يقول:فمن اتّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام.يقول العلاّمة{أحمد بن حمد الخليلي}المفتي العام لسلطنة عمان:ولن أبالغ إن قلت أنّ الإباضيّة تمتاز عقيدتهم وتتّسم طريقتهم في فهم أصول الدين بثلاثة أمور:1 سلامة المنزع: فإنّهم جمعوا في الاستدلال على صحّة معتقدهم بين صحيح النقل وصريح العقل، فلم يضربوا بالنصوص الصحيحة عرض الحائط بمجرّد تعارضها مع مقتضيات العقل بادي الرأي، كما هو شأن أصحاب المدرسة العقليّة الذين جعلوا العقل أسمى وأقدس وأصحّّ وأثبت ممّا جاء به النبيئون عن الله U، فعوّلوا عليه في التحسين والتقبيح، والتعليل والحكم، كما أنّهم لم يطفئوا شعلة العقل مستأثرين لظواهر الألفاظ غير مسترشدين به في استكشاف أبعاد معانيها، والغوص على حقائق مراميها، كما هو شأن عبدة الألفاظ الذين لا يأخذون من النصّ إلاّ قشوره، لا يتجاوزون شكله إلى جوهره، ولا يتعدّون ظاهره إلى مضمونه، بل استمسكوا بالعرى الوثقى من النصوص، واتّخذوا من العقل السليم دليلا على فهم مقاصدها، ومن الأساليب اللغويّة شراكا لاقتناص شواردها، ولا غرو فهم منطلقون في ذلك من مراشد القرآن الكريم نفسه، فكم تجد فيه: [لآيات لقوم يعقلون][لقوم يتفكّرون][لقوم يعقلون][لأولي الالباب].كما تجد فيه:/ ]إتّا أنزلناه قرآنا عربيّا لعلّكم تعقلون[. [يوسف آية:02].فهو وإن سما فوق بلاغة بلغاء العرب والعجم لم يخرج عن كونه عربي اللسان والأسلوب، وقد يسّره الله U للذكر بتفهّم آياته واستجلاء مقاصده، واستلهام مراشده.2 عدم التعصّب لأئمّتهم تعصّبا يجعلهم يتصامون عن النقول الصحيحة، ويتعامون عن العقول الصريحة، كما نجد ذلك عند كثير من المتفقّهة والمتكلّمين، ومن أبشع ما وجدناه في ذلك قول أحد المشائخ:ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضالّ مضلّ، وربّما أدّاه ذلك إلى الكفر، لأنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنّة من أصول الفكر.فقد باين الإباضيّة هذا المسلك الضيّق فقها وعقيدة إلى فسيح النظرة الشموليّة للأمّة، ولم يسوّغوا لأنفسهم أن يرفعوا كلام أحد من أئمّتهم إلى درجة كلام الله U أو كلام رسوله r، وإن بلغ في العلم والورع ما بلغ.فهذا الإمام{نورالدين السالمي}رحمه الله يقول في كتاب أصول الدين من جوهر نظامه: وهي أمور تبتنى عليها صحّة ديننا فمل إليها لا دين للمرء إذا لم يعرف ما كان منه لازما فلتعرفواعتمدن ذلك بالدليل في حالة الإجمال والتفصيلإلى أن يقول:ولا تناظر بكتاب الله ولا كلام مصطفى الأوّاهمعناه لا تجعل له نظيرا ولو يكون عالما خبيراويقول أيضا:نقدّم الحديث مهما جاء على قياسنا ولا مراءونرجعن في بيان الحكم عنه إلى إجماع أهل العلمولا يعني هذا أنّ جميع المذاهب الأربعة منغمسون فيما انغمس فيه البعض من حمأة التقليد البغيض، ورفع أقوال الأئمّة إلى مستوى أرفع من مستوى كلام الله U، وكلام رسول الله r، وأقوال الصحابة t أجمعين، كلاّ فإنّ كثيرا منهم تحرّروا من ربقة التقليد الأعمى، وأنصفوا مخالفيهم في الحكم.3 المرونة والتسامح في معاملة سائر فرق الأمّة، وإن بلغ الخلاف بينهم ما بلغ، إذ لم يتجرّءوا قطّ على إخراج أحد من الملّة، وقطع صلته بهذه الأمّة، ما دام يدين بالشهادتين، ولا ينكر شيئا ممّا عُلم من الدين بالضرورة بغير تأويل، أمّا من أسند إلى التأويل وإن كان تأويله أوهى من نسج العنكبوت فحسبه تأويله واقيّا له من الحكم عليه عندهم بالخروج عن حظيرة الأمّة، وخلع ربقة الملّة من عنقه، ومن هذا المنطلق صدر ذلك الإعلان المنصف الذي رسم مبدأ الإباضيّة في نظرتهم إلى الأمّة من أشهر قائد إباضي عرفه التاريخ، وهو:{أبو حمزة المختار بن عوف السليمي}وقد خطب خطبته المشهورة على منبر رسول الله r فأصاخ لها الدهر، وسجّلها الزمن، وخلّدها التاريخ، إذ قال فيها:[الناس منّا ونحن منهم، إلاّ ثلاثة:مشركا بالله عابد وثن، أو كافرا من أهل الكتاب، أو إماما جائرا].وقد مشى الإباضيّة في هذا النهج السليم، والتزموا هذا المبدأ القويم في معاملتهم لسائر طوائف الأمّة، كما يشهد بذلك التاريخ، ونجد هذه النبرة المنصفة تتردّد في أصوات قادة الفكر منهم في الخلف، كما كانت من قبل في السلف.فهذا [نور الدين السالمي] يبيّن لنا موقف الإباضيّة من سائر الأمّة بقوله: ونحن لا نطلب العبادا فوق شهادتيهم اعتقادا فمن أتى بالجملتين قلنا إخواننا وبالحقّ قمنا إلاّ إذا ما نقضوا المقالا واعتقدوا في دينهم ضلالا قمنا نبيّن الصواب لهم ونحسبنّ ذلك من حقّهموعلى هذه القاعدة بنى الإباضيّة حكمهم على طوائف الأمّة التي زاغت عن الحقّ وجانبت الحقيقة في معتقداتها، فكانوا أشدّ احتياطا من إخراج أحد منهم من الملّة بسبب معتقده ما دام مبنيّا على تأويل شرعي، وإن لم يكن لتأويله أساس من الصحّة، ولا حظّ له من الصواب، ومن هنا اشتدّ إنكار الإمام الكبير{محبوب بن الرحيل} على{هارون اليماني}الذي حكم بشرك المشبّهة وخروجهم من الملّة، وأنشأ{محبوب} في ذلك رسالتين جامعتين ضمّنهما حججه الداحضة لرأي {هارون}وجّه إحداهما إلى لإباضيّة عمان، وثانيهما إلى إباضيّة حضرموت.وسُئل المحقّق{الخليلي}عن حكم هؤلاء المشبّهة، هل هم مشركون؟فكان جوابه لسائله:إيّاك ثمّ إيّاك أن تعجّل بالحكم على أحد من أهل القبلة بالإشراك من قبل معرفة بأصوله، فإنّه موضع الهلاك والإهلاك.قال الإمام{ الخليلي}:ولعلّه ممّا يفاجئ كثيرا من القرّاء أن يطّلعوا لأوّل مرّة على عناية قادة الفكر الإباضي بلمّ شعث هذه الأمّة، وجمع شتاتها بعدما أثخنتها الخلافات المذهبيّة، ومزّقتها النزاعات العصبيّة، وكم تمنّوا أن يحسّ سائر أعلام الأمّة بمثل أحاسيسهم، ويشاركوهم في هذه الهموم التي تنوء بها صدورهم، وتؤرّق ليلهم، وتقضّ مضجعهم، وقد كانت منهم محاولات للخطو في هذا الطريق، والاستعداد لهذه المهمّة بنفقات ماليّة يرصدونها من جيوبهم وجيوب المخلصين من سائر أبناء الأمّة.