تقف الأرصفة والشوارع والمحلات وعناوين الصحف وباعة السّمك وكل من يستمر كحلقة في عجلة الحياة التي تسير نحو النّهايات، كشاهد على عبور جسد نحيف ووجه مدرّب على ممارسة اختلافه، وبداهة مريرة في مصاحبة واقع مرير. تكشف الأشياء أنّها تضحك حين يمرّ ملتحفا بساطته، متأبّطا كتبه وأوراقه، مشتعلا كما دينامو في درّاجة طفل صغير يلاعب أزقة العالم كي لا ينفصل عن طيبوبة أولئك الذين يحبّون العالم لعفويته، وربّما لسذاجته، لأنّ بعض السّذاجة تنبثق عن محبّة ماهرة للعالم، عند باب الكتابة كان يعيد ربط خيوط الرّنين لتجرس في أذن العالم والذات أغنية الحداثة، «رنين الحداثة» مجهول الحكاية في ورطة الرّاحل بختي بن عودة. لم نتعارف خلال شوارع المدينة، رغم أنّ حواري العالم ضيّقة ومشحونة بمرقّمات واضحة، لكنّه كان يمجّ الوضوح، كان يكتب على صفحة من صفحات كرّاسه معاني جميلة للكتابة الجديدة والقراءة الأجد، هل عرفته من خلال ذلك، أم كنت على معرفة به قبل ذلك؟ يبدو ونحن نزور الأشكال المختلفة لتمظهرات الأشياء، وتجليات الشّجر والحجر والماء وعبير الزّمن على معاصم النّساء، والسّواقي التي تسيل ويجري ماءها إلى العدم، إلى ما لا ندركه في لحظته، كلها عناصر لخلق هوية تلتقي اختلافها وتوافقها مع هويات تجتاز العالم لحظة خلق باهرة لمنصة لا تجيد استقبال سوى من ينسّق بين الصّورة الذّهنية وجمالية القول وبهاء الكتابة الجديدة. بختي بن عودة، التفاتة الزّمن نحو المكان الوطني، بذرة الجمال في وتر الكتابة، رنين الذات حين تحترف فنون الأسئلة، كان يسير على تربة العالم متجاوزا أناقته وتعاليه لصالح الانخراط في بساطة مستحيلة للتراب وترميم كسر الجهل باليومي وأعطاب الذّات، وإغناء الوعي عن طريق القذف به في أتون وعي مختلف، يجاريه ويقف معه على مشارف اللغة البهيجة، الحاملة لمشاعل المسلك النّاعم في توسّمات المعنى الأنيق والخفيف، الباهر في شكله، المخزّن للدّلالة وعواصف السر والمأساة الرّاقدة عند أرصفة الشّوارع الكونية، لذلك لحظة النّهاية كانت مخزِّنة لكل ذلك، فالإنخراط مع التراب على أرضية الملعب، كان شرابه المسائي الذي يقاسمه مع العامّة وعلامات الحي الدالة والأصيلة، الموت على التراب والعودة إليه، والوجوه التي تدل على اليومي وتعبه المضني، والمعنى الذي يتنزّل في حينه الآخر حينما يستفيق الليل وينام بختي على وجه كرّاسته المدجّجة بفعل المضايقة لدريدا دولوز وفوكو. شوارع العالم لم تكن متفلسفة، لم تكن تفيض بمثل تلك النّظرات الثاقبة، والنّافذة إلى جوهر الأسئلة والمشي في الطرقات المخبّأة في الشك وألم الأجوبة، لم تكن سقراطية بمعنى المشي وانتظام الأروقة، كان بختي بن عودة الشكل الذي سار محايثا للشّوارع المرموز لها بالفتنة الجمالية عند شفاه تتدلى على حواشي فنجان، وقهوة تحتفظ بصورة وهران وأسماء للعربي بن مهيدي والأمير عبد القادر وسنوسي حميدة، وعند المنعطفات الحاسمة يعود بختي وهّاجا، يطل من وجهه الشارب المعقوف الذي يمارس أوّل حلقات الاختلاف، عينان تخترقان الحضور وتصقل بنيتها في الغياب، تجرّب الأسئلة جدواها فيه، وتنبت فيه الحيرة المقدّسة، ويرقص على جنباته نهر القلق المعرفي.في وهران عالق دريدا، وارتبط بعتبات الدّرس المناهض للمطابقة، وجاوز الهوية الواحدة إلى تعدّد طبقاتها عبر المسرى في عنف الترجمة ومهادها الراصد. في وهران، تمثل بختي الإختلاف الماهر في محق المطابقة، فقارب دريدا ورسم كونا فلسفيا بعيدا ممجّدا بالصّمت، متجاوزا ألبير كامو الذي تمسرحت في عقابيل توهّماته المطابقة المجاورة لما هو استعماري، فانحيازه لأمّه ضد العدالة جعله يطابق الهوية الوطنية في محور المستعمِر ويجعل المصير الأمثل للعدالة تحت جنحه، ومن هذه الزّاوية يمكن أن نفهم بختي بن عودة في انفتاحه المنطقي على ذروة الاختلاف لفك أزمة الذات الوطنية التي راح يرسم لها أفقا منفتحا للعقل كي يزاحم ما تفيض به الفلسفة في بقاع متعدّدة تمثلت السؤال والإختلاف كمهاد للتفكير خارج أطر الجاهز والمكرّر، ولهذا جعل من الترجمة عتبة لحبك منوال الإختلاف. بمزيد من الوعي والتأثر بالواقع المؤسس على الإستبعاد يقارب الحداثة ك « لحظة فكرية تخالف أهواء الهوية المطلقة و تراهن على العقلنة..»، فيعيد للفكري وتعدد الهوية والعقلنة نصاب قيامها داخل حضن التفكير الوطني، ليبيد بذلك ما تعالق مع الانغلاق وسفاهة المسلك الواحدي.