طلب مني بعض القراء، من الجزائر والمغرب، تعقيبا على مقالي حول الكاتب التركي الساخر عزيز نسين، أن أكتب شيئا عن السخرية في الوطن العربي، ولأن الموضوع واسع ومتشعب، ويتطلب العودة إلى ما قبل المقامات، إلى ما قبل الحريري وبديع الزمان، ثم المرور بعدة أسماء ذات أهمية كبيرة، ومنها توفيق الحكيم وأحمد رضا حوحو، فسأكتفي بأحد الأقلام البارزة، بانتظار العودة إلى مؤلفين مكرسين تميزوا بالكتابة الساخرة لغايات مركبة. أعتبر الكاتب السوري زكريا تامر(1931) أحد هؤلاء القلائل. لم ألتق به سوى في مجاميعه القصصية ومقالاته الصحفية، وفي الدراسات التي اهتمت بقصصه القصيرة، على قلتها، خاصة في البلدان المغاربية. لكننا كدنا أن نلتقي في ديسمبر 2016 لولا ظروفه الصحية. كنّا سنسافر معا من قطر إلى الكويت، في الطائرة نفسها لحضور مهرجان القصة العربية، رفقة مجموعة كبيرة من كتاب القصة، ومنهم القاص المغربي أنيس الرافعي. ربما كنا سنتحدث عن العبث المرير، أو عن السخرية في كتاباته وفي التجربة العربية، المرجعيات والأسباب والوظائف والآفاق. لم يحدث ذلك، وربما لن يحصل أبدا. الأديب والصحفي زكريا تامر مقيم في بريطانيا من ثلاثة عقود (1981). غادر سوريا، واستقر هناك لحاجة في نفسه. لا بدّ أنه يحنّ، رغم بهجة لندن وعبقريتها، إلى أزقة دمشق وحاراتها البهية حيث كتب أغلب نصوصه، سيحن إلى بردى والمسجد الأموي والصالحية والحامدية وباب توما والمرجة والسيدة زينب ومقهى الفنانين وجبل قسيون. هناك أشياء كثيرة ستنقصه، بما في ذلك الحزن العربي الأصيل، لكنه سينقص دمشق برمتها. ست وثمانون سنة مرت على قدومه إلى الكون، متمردا ومحتفيا بسرده، أو هكذا يبدو من خلال منجزه الذي أحسبه مجموعة من الجواهر النادرة التي ظل ينثرها علينا منذ ستين سنة ( بداية من 1958). لكن، قلّة قليلة منّا تعرف هذا الاسم الكبير أدبيا: ثمة أسماء مهمة كان حظها عاثرا، وبالمقابل، قد نجد كتابات أقل قيمة على كافة الأصعدة، لكنها عرفت انتشارا أكثر من قيمتها الفعلية، مسألة صدف وسياقات وقضايا أخرى يعرفها النقد وتاريخ الأدب. ربما كان لهذا الكاتب حظ أكبر مع الترجمة التي نقلته إلى عدة لغات عالمية، وأمّا الجامعات الجزائرية، والعربية عامة، فلم تنصفه، إن لم تسهم في عزله والتنكر له كقلم يستحق كل التبجيل. اكتشفت زكريا تامر في نهاية السبعينيات عندما كنت طالبا بجامعة الجزائر. شبّهت أجواءه المثيرة بعوالم الشاعر محمد الماغوط في ديوان: «الفرح ليس مهنتي»، وفي كلّ أشعاره التي اعتبرتها حقولا من التشبيهات والاستعارات والأخيلة المقوية، فيتامينات من نوع فعّال. كان الاثنان من سلالة واحدة، لا أدري ما اسمها تحديدا، لكنها سلالة نادرة في المجتمعات المتفائلة بلا سبب، أو تلك المصابة بداء الأمل المضرّ بالبيئة والمنطق. مع ذلك فإن القاص زكريا تامر كان مختلفا عن الماغوط، لم يكن ميالا في تجربته الطويلة إلى الاستعارة والتنميق اللفظي، بمفهومه البلاغي المتواتر. كانت قصصه المهيبة أكثر بساطة، وأقلّ اتكاء على الشاعرية المغالية في التبئير على الحالة، بمحو الفعل، أو بالتقليل من حضوره من حيث إن الغلبة تكون لتضخم النص القائم على الوقفات، أو على المشاهد التي تتخذ اللغة موضوعا لها. لقد كتب ببساطة متناهية، لغة وتعبيرا، وبرمزية ذكية ومؤثثة، وكان متشائما من العالم بشكل جيد، ومقنعا بالنظر إلى السياقات العربية التي ظلت مناوئة للبرعم والفراشة كخطر محدق. أسس زكريا تامر على سرد تمثيلي، أو مسرحي، على وقائع محتملة، على التاريخ والممكنات، فكانت الأحداث والشخصيات، رغم استعانتها بالمتخيل والموروث والعجيب، بمثابة تكافؤات مجاورة للمحيط الخارجي، محيطنا نحن المولعين بصناعة الشرّ في أوطان ضيقة: كانت السجون أهمّ إنجاز حققناه، شأنها شأن المطاردات والتصفيات والمنطق العابث والمفاهيم المقلوبة والخيانات والمنظورات السريالية: ذلك هو أثاث نصوصه في كافة مجاميعه، وفي مقالاته وأعمدته الصحفية المثيرة التي كان يجب الاهتمام برمزيتها، بدل الاهتمام بالتفاؤل المكيّف الذي يشبه الحشيش والمهدئات. كتب زكريا تامر، إضافة إلى القصص الموجهة للأطفال والمقالات التي جمعها في كتابين، عدة مجاميع، ومنها: صهيل الجواد الأبيض، دمشق الحرائق، سنضحك، ربيع في الرماد، الحصرم. أمّا «النمور في اليوم العاشر» فشيء عجيب حقا، قصة غريبة ومثيرة، وغاية في الذكاء، شأنها شأن كتاباته مجتمعة، دون استثناء، وقد تلخص هذه الأخيرة المنحى الساخر لكاتب عالج الحاضر والماضي والمستقبل والتاريخ والواقع والسياسة والقصر والشارع والغوغاء والنخبة والفراغ بطريقته المميزة، دون تحامل، ودون أمل في تغيير ما لا يتغير. كان يكتب بصدق. أمّا «النمور في اليوم العاشر» فهي نحن، تفصيلا تفصيلا. لم يكن زكريا تامر ساخرا فحسب، كان زنجيا رغما عنه، شيئا من الأشياء التي تؤثث المدن اللعينة، مدننا العربية المحكومة بالسريالية والعبث والضحك والموت. أجد اليوم في نصوصه كآبة سعيدة جدا، أو سعادة كئيبة، من ذلك النوع الذي قد نعثر عليه عند جورج أورويل في مزرعة الحيوان، أو عند بيرانديللو، مع مسحة مركزة لكافكا، كنوع من التوابل المقوية للذوق، وهناك نقده الموضوعي لحالة التشظي التي تميز الفرد والجماعة والجغرافيا والنفس العربية المتأزمة من قرون، أو تلك المصرة على التخلف المقنن. قرأت بمتعة كبيرة كل ما كتبه، وفكرت مرارا في الجهد المضاعف الذي بذله من أجل ترقية الجانب الساخر الذي يستدعي مؤهلات خاصة، وهناك المنحى السوداوي اللافت. لقد فعل ذلك بأنّاة. ليس من السهل أن تكتب حكاية متخيلة بذلك الأسلوب الفاخر، أو بتغليب ما يمكن أن يكون «مزاحا» شائكا، قادرا على البناء والتدمير، لكنه مؤهل لإيقاظ أحاسيسنا المستلقية على أرائك الوقت، بنوع من البهجة الزائفة. ستظل نصوص زكريا تامر، من حيث السخرية اللاذعة، المميزة، الصادمة، من أهم النصوص العربية التي قرأت الواقع والنفس بمهارة العارف، قبل أن تمسخ كلّ الظاهر. كانت نصوصه تنظر إلى الجواهر، إلى ما وراء الكلمة والجملة واللفظة والحدث، أو ما كان ذا علاقة بالتجليات المضللة للفرد.