أيقضت فيضانات البيض التي خلّفت المئات من المساكن المتضررة والعائلات المنكوبة وضحايا (12 قتيلا)، ضمائر الجهات المعنية بالتعمير بالولاية والسلطات على المستوى المحلي الوطني التي وعدت بعلاج المعضلة التي بات يتسبب فيها الوادي الذي تحوّل عبر الزمن من مكان يحتاط للإقامة حوله إلى منطقة تنجز على حوافها السكنات، ضاربين عرض الحائط بالأخطار التي تتسبب فيها مثل هذه الأعمال غير العقلانية التي تغيب فيها مقاييس التعمير والبناء. إن فيضان البيض وتزامنا معه فيضان غرداية، ومن قبل فيضان الوادي وبالرغم من الخسائر التي تسببوا فيها سواء من جانب الأرواح أو البنيان، فقد أعادوا حسابات المسؤولين المحليين التي هي بحاجة إلى إعادة تخطيط وتصحيح وصقل حتى لا تتكرر مخلفات هذه الكوارث الطبيعية التي أثبتت الدراسات أنه يمكن التحكم في سلبياتها بالرغم من عدم القدرة على وقف هذه الظواهر لأنها متعلقة بالطبيعة وتتكرر بفعل الظروف الجوية كل فترة زمنية ومنها ما يعود للظهور كل خمسين سنة وبعضها كل مائة سنة. إن ظاهرة فيضانات الوديان بالجزائر وهي الظاهرة التي أصبحت تفاجئنا من حين إلى آخر بعدد من ولايات الهضاب العليا والصحراء، تستدعي تظافر جهود الخبراء والمختصين وخاصة السلطات المحلية المطالبة بحماية أرواح المواطنين ووضع ضوابط لإنجاز السكنات بجوار هذه الأودية والأنهار بالمقاييس الكفيلة بحماية الأرواح في حالة عودة الفيضانات إلى الظهور. وقد حاولنا في هذا التحقيق الذي أنجزناه على هامش كارثة البيض، جمع آراء مختصين في العمران والبناء ومنهم السيد بوعلام بابا وهو مهندس معماري ومدير شركة »ريال 2000« للمقاولات والسيد كاصو وهو مهندس في التعمير إلتقينا بهما بمقر الشركة التي تشرف على إنجاز ثلاث عمارات من الطراز العالي، تضم كل عمارة 18 طابقا، مقرها بوسط مدينة وهران بالقرب من محطة الطاكسيات المؤدية إلى الجهة الغربية بالوطن وهي المسماة بمحطة 19 جوان. وقد حملنا السيد بوعلام بابا والسيد كاصو إلى الماضي القريب لهذه الوديان لما كان العرب الرّحل يحتاطون تلقائيا من الخطورة التي قد تتسبّب فيها في حالة هيجانها، ولأنهم كانوا يعتمدون على الخيم في الإقامة والمبيت فالخسارة في الأرواح نادرة وقليلة فلا أسقف تنهار على أصحابها ولا عائلات منكوبة لأنها تعتمد على الرّحيل من مكان لآخر بحثا عن الماء والغذاء والعمل، وهناك من العائلات من أقامت بساتين لها بجوار الوادي تحميهم من شرّه وتوفّر لهم الخضر والفواكه بعد زراعتها وسقيها بمياه الوديان، لكن مع مرور السنين عوضتها البناءات بعد أن تم توزيع وتخصيص أراضيها لإقامة سكنات غاضين البصر عن خطورة ما يقدمون عليه. حسابات خاطئة ورغم جميع الحسابات والتخمينات يقول المهندس »بوعلام بابا« ومشاريع الجسور لحماية محيط الوادي المسكون، إلا أنها كانت مخطّطات ناقصة غلبت على آراء المهندسين والخبراء لأن إجراءات تفادي فيضانات الوديان لا حل لها سوى الإبتعاد مسافات معيّنة ومدروسة وعند حدودها تنجز المساكن والبنايات بما يبعث على الإرتياح فالسكان بعيدون عن مجرى الوادي ما بعدوا عن حوافه الطبيعية، هذا في الحالات الطبيعية التي تعتمد على دراسات علمية دقيقة، لكن الواقع بمختلف الأحياء والمدن القريبة من الوديان بمختلف ولايات الجزائر، غير ذلك تماما وإن ارتأت السلطات المحلية والمعنيون بالعمران ضرورة إقامة حواف على جانبي الوادي لمحاصرته في حالة فيضانه، إلا أنهم لم ينجحوا لأن قوة المياه والسيول كافية لتحطيم هذه الحواف وتحطيم ما يجاورها من بناءات بما يرافقها من خسائر مادية وأخرى في الأرواح. وأعطى محدثينا مثالا عن الوديان بفرنسا التي لم تخلّف مشاكلا أو كوارث رغم شساعتها كنهر السين وذلك للإحتياطات التي ارتأتها السلطات هناك مناسبة لحماية المحيط السكاني المجاور في حال غضب الطبيعة لا سيما وأن ظواهرا مثل الفيضانات أصبحت عادية جدا بالدول الأوروبية المعروفة بتساقط الأمطار بطرق مفاجئة أكثر من مرة. وما حدث بالبيض وغرداية هذا الشهر ومن قبل بمدن أخرى هو نتيجة حتمية لعمل الجهات التي قامت بتضييق مجرى الوادي بالحجم الذي يجيز للسيول المرور، إلا أن مثل هذه الآراء خاطئة فالأجدر والأصح كان ضرورة إبعاد العمران والبناء عن الواد مسافات كفيلة بحماية الأرواح، والغريب في الأمر أن كارثة غرداية كشفت عن تجاوزات أقدمت عليها السلطات المحلية التي قامت بإنجاز سكنات تابعة لها بجوار الوادي في حين يتضح أن السكان الذين كانوا يجاورون وادي البيض يحوزون على ملكيات خاصة للأراضي التي بنوا بها منازلهم وينتقد المختصون في ميدان التعمير والبناء وحتى الأشغال العمومية طريقة التعامل مع الوديان بالجزائر التي تصرف عليها الدولة أغلفة مالية تقدّر بالمليارات كما هو الحال مع وادي البيض الذي تم تضييق ممّره بتكلفة مالية باهضة جدا، وانتهى بالخسائر المذكورة ولو تم تركه في حالته الطبيعية لما حدث ما حدث... ضرورة إعادة النظر في »حرمة« الوادي ويوصي محدثينا بضرورة تسطير قواعد عمران خاصة بجوار الوديان بالتعاون مع المختصين والخبراء، كما حدث كردّ فعل طبيعي بعد زلزال الشلف الذي قضى على مدينة بكاملها في (1980) وهي الكارثة الطبيعية الأكثر ثقلا وضررا التي أصابت الجزائر في الخمسين سنة الماضية والتي أستدعت تظافر الجهود من أجل بعث قاعدة عمرانية بالمنطقة وبالجزائر عامة وتم ذلك بالتعاون مع هيئة مراقبة البناء إبتداء من 1983 التي أوكلت لها مهمة مراقبة درجة مقاومة الزلازل ولكل منطقة أو مدينة معدلات معينة تأخذ بعين الإعتبار في إنجاز البناءات والسكنات بصلابة كفيلة بالمقاومة عند حدود تلك المعدلات لكن ما تزال مثل هذه الإجراءات التقنية غائبة في إنجاز المباني والمساكن الفردية بالمدينة والبادية على حد سواء، في حين كان من الضروري تشديد القوانين التي تحمي هذه السكنات من الكوارث الطبيعية وأن تعطى مثلا مهمة متابعتها لمهندسين معماريين يرافقون الأشغال من بدايتها حتى نهايتها، حتى لا تقتصر عملية إنجاز المساكن الفردية أو الفيلات على الشكل المعماري الخارجي فقط، ويحضرنا في هذا المقام تقنية إنجاز المنازل بالشلف التي ما تزال تعتمد على شهادات المطابقة التي تمنحها لهم هيئة مراقبة البناء وتصب هذه الأفكار والمساعي ضمن أهداف لحماية الأرواح البشرية التي تقطن بهذه المدينة المعروفة بالهزّات والزلازل النائمة. وبهذه المناسبة يجدر التنبيه إلى أن الفيضانات والزلازل تبقى من أكبر الأخطار الطبيعية التي يبقى بلدنا معرّضا لها وتستلزم تسييرا مناسبا وأكثر حكمة خاصة وأن أحياءنا ومدننا وقرانا فيها من الهشاشة الكثير ومعظمها تنامت بأشكال فوضوية لم تراع فيها قواعد البناء. وقد ألمت الجزائر في العشريتين الأخيرتين زلازل وفيضانات خلّفت الآلاف من الضحايا وأضرار مادية جسيمة، ولا تمحى من الأذهان فيضانات باب الواديوغرداية وزلزال بومرداس.. كوارث وفاجعة وللتقرّب من حجم المأساة ارتأينا تقديم هذه الكوارث بالتسلسل بداية من زلزال معسكر الذي حدث في 18 أوت 1994 بقوة 4،5 وخلّف 171 ضحية و290 جريح إلى جانب ألف مبنى محطم، تليها فيضانات برج بوعريريج التي وقعت في 23 سبتمبر 1994متسببة في 16 حالة وفاة وأضرر مادية قدرت ب 000.000.10 دينار ثم زلزال عين تموشنت الذي هزّ المنطقة في 22 ديسمبر 1999 بقوة 8،5 درجة خلّفت 28 حالة وفاة و25 ألف منكوب، وكانت فيضانات الوادي، الفاجعة الكبرى للعدد الكبير للضحايا الذين قدروا ب 900 وفاة ومفقود ، وبعدها بسنتين في 21 ماي 2003 ألمنا زلزال بومرداس الذي لا يمحى من الأذهان (مثله مثل زلزال الشلف)، والذي خلف 2278 وفاة وأكثر من 180 ألف شخص بدون مأوى إلى جانب 19800 مبنى متضرر منها 16715 منزل تهدّمت وبلغت الأضرار المادية أزيد من 222 مليار دينار، وخلّفت فيضانات أدرار في 14 أفريل 2004 أكثر من 5 آلاف أسرة منكوبة وأزيد من 7 آلاف مبنى تهدّم جزئيا وكليا وتأتي بعدها فيضانات غرداية بتاريخ 1 سبتمبر 2008 التي بلغ عدد ضحاياها 43 شخصا أما الأضرار فقد لحقت بأزيد من 3 آلاف مبنى وتواصلت الفيضانات بالهضاب العليا والصحراء ببشار في 8 أكتوبر 2008 وخلفت 31 وفاة و4300 مبنى متضرر وأدرار مجددا في 20 جانفي 2009 ولحسن الحظ لم تخلّف خسائر كبيرة في الأرواح (ضحية و5500 مبنى متضرر) وها هي الظاهرة قد ألمت بالبيض في أكتوبر الحالي وموازاة معها مدينة غرداية والإحصائيات المقدمة بخصوص الخسائر في الأرواح والأضرار المادية لم تعط حصيلتها النهائية بعد بدليل الطفلة الرضيعة التي ما تزال مفقودة إثر فيضانات وادي البيض. وإثر هذه الكوارث وأمام جسامة ما خلفته من خسائر أصدرت السلطات الوطنية جملة من القوانين من شأنها التكفل الأمثل بالكوارث من خلال سياسة وقائية وهي الإجراءات التي دعّمت التدابير المتخذة إثر زلزال الشلف في 10 أكتوبر 1980، ويتضح جليا أن عددا من هذه الرسوم والمقاييس م تزال حبرا على ورق وإلا ما تكرّرت الكوارث بالدرجة التي حدثت بها وخاصة الفيضانات التي في مقدورنا التحكم فيها جيّدا وبالإمكان تفادي الخسائر المادية والبشرية التي تتسبب فيها.