واسيني هل أصبحت الجمهورية جريدة يمينية بعد تعريبها؟ أي هل تخلت عن نزعتها النقدية التي اتسمت بها بعد تعريبها، ودخلت إلى الصف؟ قد يكون في العنوان بعض الغرابة لكن وضع الجريدة لم يكن بعيدا عن هذا. هناك قصص، على قسوتها، يجب أن تحكى. الخلافات اللغوية في الجزائر كانت دائما مصدر فرقة وصراعات خفية أو ظاهرة. التهمة الجاهزة تتنوع بحسب الموقع اللغوي. التخونج والدروشة وغياب الخبرة بالنسبة لتهمةً الفرانكفونيين ضد المعربين، والطابور اللغوي الخامس وتنفيذ برنامج بقايا فلول الاستعمار، بالنسبة لتهمة المعربين ضد الفرانكفونيين، وذهب تحت حوافر التطرف من لم يكونوا لا هنا ولا هناك. كانوا يرون في العملية إعداما منظما لجريدة كبيرة. جريدة اتسمت بصدقيتها وحرفيتها. فقد كانت الأحكام جاهزة ومدمرة من الداخل، وتحتاج كلها إلى قراءة تضعها في منطقها الحقيقي سواء كان ظاهرا أم خفيا. وهذه الممارسات الإقصائية الجاهزة حدث في كل المؤسسات الثقافية والإعلامية. لفهم الموضع جيدا وخارج الأهواء اللغوية الجاهزة يجب فهم السياق. منذ أن عربت الجريدة أشياء كثيرة تغيرت فيها بعمق، بما في ذلك علاقات العمل والعلاقات الإنسانية. رأها المعربون انتصارا على حقب الاذلال اللغوي الاستعماري، مع أن أمرا كهذا كان يمكن تفاديه، ، ويحتاج إلى براغماتية أكثر إيجابية. أكثر ووعيا، وأعمق تبصرا. لإن الجريدة كانت يومها جزائرية مائة بالمائة ولم تكن هي صدى وهران حتى ولو ترعرعت وكبرت في مقرها الجميل في حميدة سنوسي. لا شيء يمنع اليوم من القول إن الجمهورية كانت صوتا فرانكفونيا فعالا وكبيرا ومهما أيضا، في المشهد الثقافي والإعلامي الوطني. فقد ورثت الجريدة كل مهنية الحقبة الاستعمارية التي تبنتها جردة ليكو دوران، بغض النظر عن المحتوى الاستعماري لهذه الأخيرة. فقد نشأ في عمق جريدة الجمهورية تيار يساري وعقلاني كبير وغالب، فرض سلطته عمليا على الجريدة وكان ناقدا للكثير من ممارسات في فترة ما بعد الاستقلال. فكتب بحرفية، وبحرية كبيرة ومسؤولية عالية، مما جعل المقروئية تلتف حول الجريدة التي أصبحت في وقت وجيز أهم جريدة وطنية متخطية وضعها الاعتباري كجريدة جهوية تعبر عن القطاع الغربي الوهراني كما كان يسمى وقتها. فقد كانت الجمهورية في حقيبتها الفرانكفونية هي الجريدة الأكثر توزيعا وطنيا. عمليا لم تكن جهوية فقط حتى موضوعاتها باستثناء الصفحات الجهوية التي تحكي المنطقة الغربية، كانت مادتها الأساسية وطنية. بل من يقرأها لا يشعر أنها جريدة ولكنها جريدة معارضة. فقد ورثت من الأجيال الأولى بما في ذلك الذين بدأوا في ليكو دوران (صدى وهران)، حرفية غير مسبوقة إعلاميا، في معالجة الأوضاع العامة، وتقنية عالية في ترتيب المادة الإعلامية، وتصفيفها. الروتاتيف التي كانت تملكها لم تكن في متناول الا الجرائد الفرنسية الكبرى. باستثناء الصفحة الأولى التي كانت رسمية قليلا لأنها التعبير عن خط النظام وتوجهاته، الباقي كان معارضا بحكم ثقافته وبحكم الوضع وقتها الذي جاء بعد الاستقلال وبعد انقلاب الهواري بومدين العسكري. صحيح أن بومدين عمل الكثير للجزائر بالرغم من خياراته الصناعية التي باءت بالفشل، ودمرت الزراعة على الرغم من النوايا الحسنة، لكنه كان وراء اول انقلاب في الجزائر ليضع في المدار العسكر من جديد بينما كان من الأجدى أن تبقى المؤسسة العسكرية خارج الاوضاع الطارئة والتقلبات. مؤسسة دولة وليس مؤسسة سلطة عرضة للزوال. لم يكن الصحفيون راضين عن التقلبات الحاصلة وعبروا عن مرارة الخيبة التي أعقبت الاستقلال، حتى أن بعضهم خضع للبحث بتهمة انتمائه لليسار الذي رفض الانقلاب على بن بلا في 65 وانضم للحركة اليسارية المناهضة للانقلاب. لم تكن هناك نخبة إعلامية معربة بكثافة ووعي النخبة الفرانكفونية لأن مسار النخبة المعربة كان قاسيا فقد ظل مشروطا بالمنع الاستعماري الذي لم يبق أمام هذه النخبة إما الهجرة أو الاكتفاء باللغة التي توفرها الكتاتيب أو مدارس جمعية العلماء المسلمين الخاصة. وعندما عربت جريدة الجمهورية بإرادة فوقية، أي إرادة وزارة الإعلام وقتها وقتها الدكتور طالب الإبراهيمي، تغير الوضع جذريا. كانت رؤية الوزارة واضحة، ليس التعريب فقط، ولكن إحلال بشر مكان بشر آخرين. لم يكن التغيير يعني فقط استبدال مفرنسين بمعربين، ولكن استبدال النهج والأفكار التي تأسست عليها الجريدة. حتى النماذج المختارة لتسيير الجريدة على مستوى المدراء لم تكن اعتباطية. كانت محكومة بأيديولوجية قومية و/ أو دينية أيضا. تمت التغييرات وقتها بنية مسبقة لتصفية الجريدة من الداخل ليس من الفرانكفونيين ولكن أيضا من الأفكار والتوجهات اليسارية والعقلانية والتنويرية للجريدة. لهذا ولدت الجريدة المعربة حاملة لرهانات قومية ودينية، لكن، للأسف، بمهنية منعدمة أو ضعيفة، بالقياس لخبرة الجمهورية المفرنسة. أغلب الملتحقين بالجريدة وقتها، صحفيين ومتعاونين وانا منهم، من المعربين، طلبة جاؤوا من أقسام العلوم الإنسانية تحدوهم الحاجة المادية أو الرغبة في اكتشاف عالم الصحافة. تعلموا الصحافة داخل الجريدة بتأطير تلقائي من بعض ذوي الخبرة من الفرانكفونيين الذين قاوموا الموت المهني والإعلامي الفروض عليهم، وبقوا في الجريدة ولم تغادروا وبقوا في موقع العمل وتعلموا العربية بصعوبات جمة، لكن تعلموها، بالخصوص الشباب. فقد بذلت هذه المجموعة، في جز منها على الاقل، جهودا يائسة للتعريب وتعلم اللغة العربية الإعلامية، بينما ظل الجيل الأول يمر إلى القاريء المعرب عن طريق الترجمة. لنا أن نتخيل درجة معاناة هذه النخبة التي وجدت نفسها خارج الفعل الإعلامي الذي شكل جزءا مهما من حياتها. مأسوية القاريء الذي توجه نحو جرائد اخرى كالمكانز اليومي والجزائر الأحداث، لكن ذلك لم يغط على فجيعة خسران جريدة من أكبر الجرائد الوطنية الناطقة بالفرنسية. لكن أكبر خسارة كانت الآلاف التي تعودت اقتناء جريدتها كل صباح في حيها، فخسرت هذه العادة. نزلت المقروئية إلى الحضيض ولم ترتفع أبدا على الرغم من المجهودات الكبيرة. فالقارئ المعرب كان يجب تكوينه ثم تربية عادات قرائية جديدة لم تكن آلياتها متوفرة وقتها