تمر اليوم أربعون سنة ( أول جانفي 1977) بالضبط على صدور أول عدد معرب كليا، بعد أن خضعت الجريدة للتعريب التدريجي بالصفحات. لا يمكن أن تمر المناسبة بلا وقفة نتأمل فيها الجهود والأخطاء والفرص الضائعة. أتفهم جيدا رفض الكثيرين من قراء الجمهورية الجديدة باللغة العربية التعامل معها. لقد تعودوا على جريدة كبيرة، وبمستوى ثقافي وتحليلي دولي كبير. كانت أحلام بعضهم أن يجعلوا منها شبيها لجريدة " لوموند "الفرنسية في قوتها وحرفيتها وموضوعيتها. وكانوا قادرين على ذلك. الطاقم المحرر، والمدير، والموزع أيضا، أثبتوا جدارتهم وقدراتهم الكبيرة. كانت الجمهورية أكثر من جريدة وطنية. الكثير من الوكالات العالمية مثل رويتر ووكالة طاس الروسية كانت تأخذ منها الكثير من أخبارها المتعلقة بالمنطقة. على الورق طبعا، لم تكن أكثر من جريدة جهوية أصبحت أكبر من الوزارة الوصية التي كثيرا ما حاربتها على جرأتها. عمليا جريدة وطنية بامتياز توزيعا وعملا وأقلاما وقضايا. هذا الجمهور المهيكل الذي لا يذهب إلى عمله إلا برفقة جريدة الجمهورية، فوجئ ذات صباح بجريدة لا يفهم حرفا فيها لأنه فرانكفوني، أو حتى لا يريد أن يفهمها أيضا في سياق تسييس اللغة والصراع بين الفرانكفونيين والمعرّبين، ونسيت القيمة والقدرة والحرفية لحساب السياسي. وبدأ الدفاع عن لغة كأنه دفاع بالضرورة عن خيار سياسي. كان الفرانكفونيون يستعدون لدفع ثمنه على حساب الجدية. التي هي الحكم الأساسي والأكبر في مثل هذه الخيارات. فقد تعوّد الجمهور عليها. لم أدرك يومها، وأنا أعمل بها كطالب متعاون، أننا دفنا إلى الأبد أهم صحيفة وطنية. لا أدري هل هي الغباوة، أم رهانات ربح معركة التعريب ولو بكسر أي منجز كان. ماذا لو سألنا اليوم بحب وموضوعية: كم أصبحت الجريدة توزع بعد تعريبها؟ كم كانت توزع يوم كانت فرانكوفونية؟ . بموضوعية، من المستحيل المقارنة، الفارق مهول. الأسباب لغوية أكيد ولكنها أكثر تعقيدا وتشابكا من ذلك، على رأسها الخيارات السياسية الخاسرة مهما افترضنا طيبة النوايا وصدقها. لمن لا يعرفها من القراء العرب، فقد كانت جريدة الجمهورية تصدر بالفرنسية la République ولم تتعرب إلا في 1976. عايشت تلك الفترة عن قرب وأنا طالب في جامعة وهران ومتعاون مع الجريدة. كانت الجمهورية وقتها، أي قبل أن تُعرَّب، أهم جريدة وطنية في الجزائر، وأكثرها مقروئية. العدد، ما يكاد ينزل إلى السوق صباحا، حتى ينتهي أمام منافسة قوية من جريدة عريقة أخرى ولها تاريخ: المجاهد. لا توجد أية وصفة لهذا النجاح. فقد كان خيار العمل الجاد والحر والجهد التنويري والارتباط بالمجتمع بقوة، هي عناصر مبررة لهذا النجاح. فقد اختارت الجمهورية الالتصاق بالحياة اليومية في صعوباتها وقسوة يومياتها، ونقد كل مظاهر الضعف في الخيارات السياسية. أغلب المدراء ورؤساء التحرير الذين مرّوا على هذه الجريدة، اشتغلوا ضمن هذا الأفق. فقد كان طاقمها الفرونكفوني حرفيا بامتياز. خارج الحسابات الأيديولوجية، على الرغم من وجودها. بعضهم عمل بالجرائد الفرنسية السابقة للجمهورية، واكتسب خبرته المهنية من هناك. وعندما انضم إلى الجمهورية، كان رافدا تجريبيا حقيقيا، كانوا وطنيين جدا على الرغم من التهم المحدقة بهم وقتها. وظلوا أوفياء لخط الجريدة الوطني، ولتوجهها الديمقراطي والتنويري. وفي عرفنا الثقافي والفكري العربي، عندما تصبح للجريدة قيمة و مقروئية متعالية، وسلطة إعلامية، توضع بسرعة تحت المجهر. ولكن هذه السلطة الصحفية الرمزية، لها وسائط الدفاع عن نفسها، من بينها مقروئيتها. قرار تعريبها اتخذ على مستوى سياسي عال، في إطار سياسة التعريب التي مست الكثير من القطاعات التربوية والإعلامية. من حيث المبدأ لا جدال في أحقية ذلك. المشكلة الكبرى هي في أدلجة التعريب الذي تحول في فترة وجيزة إلى سيف ديموقليس لتصفية كل من يخالف السياسة العامة. بعد أربع سنوات من تعريب النصر، جاء دور الجمهورية لتجد كوكبة من أهم الصحفيين في البطالة المقنعة قبل أن يحال الكثير منهم إلى التقاعد الصوري. فوجد جيش من الصحفيين معطلين. ووفد على الإعلام شباب جدد بلا تكوين. تعلموا الصحافة في عمق الجريدة بكل ما يحمل ذلك من نقائص على الرغم من الإرادة الكبيرة. يجب أن نذكر بالوضع الإعلامي الذي كان جدّ معقّد وقتها لوجود طاقم مفرنس مائة بالمائة، فتم في الأخير اللجوء إلى الحلول السهلة بتسريح أزيد من 20 صحفيّا، والاحتفاظ بعدد آخر، ممن كانوا قادرين على التكيّف مع اللّغة العربية، ولو بصعوبة، إذ لا خيار في النهاية. وشُرِع مباشرة في يوم الاثنين 5 يناير 1976 في تعريب العدد 3853 بداية من الصفحة الأخيرة. ثمّن يومها وزير الثقافة والإعلام السيد أحمد طالب الإبراهيمي هذا الجهد. كتب عمودا في الجريدة بعنوان : "خطوة الجمهورية مع مطلع العام الجديد" اعتبر هذا الحدث استرجاعا للمقومات الوطنية، وتصفية جميع رواسب الاستعمار التي أريد بها طمس معالم الشخصيّة العربيّة الإسلامية الجزائرية: "...وهكذا وبعد أربع سنوات من تعريب "النصر" الصادرة بقسنطينة يأتي دور "الجمهورية" كمرحلة تندرج ضمن السياسة التي رسمتها القيادة لتعريب القطاع إذ لا يمكن التحدّث عن تحقيق أهدافنا إذا بقي قطاعنا ينطق بلغة أخرى غير العربية...". ومع شروق شمس، صبيحة يوم السبت، أول جانفي سنة 1977، طلعت الجريدة على قرّائها في ثوب جديد مختتمة آخر صفحاتها، وفاتحة عهدا جديدا في مسيرتها. قضى الصحفيون يوم الجمعة 31 ديسمبر حتى وقت متأخر وهم يعيدون ترتيب الصفحات وتدقيقها بشكل تفصيلي وكأن اليوم القادم سيكون خاتمة رحلة وسيواجه القراء جريدة بالعربية مائة بالمائة. التقيت في ذلك المساء في ردهات الجريدة وهو يمسك كأس قهوة بادرة من شده مكوثه في يده: _كأنهم خائفون – ليس كأنهم. هم خائفون – مِمَّ وممّن؟ - أن لا تأتي الجريدة كما أرادوها. وأن لا يرضى عليها الوزير. أن يخسروا مواقعهم. في ذلك الصباح البارد، من فجر يوم السبت 1جانفي 1977، كنت مزهوا على غير العادة وكأن الجريدة ملكية خاصة. فقد اشتريت يومها عشرين عددا وأنا لا أدري السبب سوى لإعلان فرحي الذي كان يعنى بالنسبة لصحفيين آخرين، جنازة ودفن مبكر لأهم جريدة وطنية. صحيفة مزعجة قُتلت عن سبق إصرار وترصد. سلّمت العشرين للأصدقاء الفرانكفونيين مزدوجي اللغة، وكأني كنت أفعل ذلك انتقاما منهم مع أنهم كانوا أصدقائي وترجمت لهم الكثير، وأن نيتي كانت طيبة ولا تتجاوز فكرة رومانسية أن العربية يمكن أن تكون لغة حية، للصحافة والحب. وكأني كنت أقول لهم: - ها هي لغتهم تلفظ أنفاسها الأخيرة. ولأصدقائي المعربين أهديتها أيضا، وبدا كأني أسخر من بعضهم: -ها هي جريدتهم البائسة ، ورصاصة الرحمة التي أطلقتموها على الجريدة الحية والشجاعة الوحيدة. كنت بصدد كتابة مادة عن تلقي الجمهورية في حلتها الجديدة. كانت ردود الفعل متناقضة. غالبية الفرانكفونيين كانت ردة فعلهم عنيفة. فقد اعتبر الكثير منهم ذلك اعتداء ليس ضد اللّغة الفرنسية، ولكن ضدّ ما كانت تحمله من خيارات حداثيّة. عُرّبت، خُرِّبتْ، قال أحدهم. لن يقرأها أحد ، حبرها يلتصق بسرعة على الأيدي .. الحزن كان واضحا على الكثير من الوجوه. نسبة قليلة كانت ردة فعلها غير عدائية. كنت مع أن فكرة أن المادة الاقتصادية والتحليلية في الجمهورية المعربة ضعيفة، ما عدا ذلك، المنافسة كانت ممكنة. قال آخر: - لم أخسر كثيرا. أنا لا أقرأ إلا الرياضة وبعض الموضوعات الثقافية. الباقي لا أهتم به. الجريدة في عمومها تسير وفق إملاءات السلطة. خسرت الجمهورية استقلاليتها وشجاعتها منذ زمن بعيد. فقد تحولت إلى ترداد لصوت الوزارة، وامتدادا للحكومة الموقرة. عند أغلبية أصدقائي من المعربين، بعد أن قرأوا العدد. رد الفعل كان إيجابيا وانتقاميا أيضا: - آن الأوان أن تتوقف الفرنسية عن إملاء شروطها. أخيرا استرجعت العربية مكانتها. كانت سجينة في أرضها. ما عليهش، نتحمل نقائصها. لا مشكلة. المهم ستتطور مع الوقت. عندما عدت إلى الحي الجامعي في الكميل ، اكتشفت أني نسيت أن أترك عددا لي.