في كل منطقة من المناطق زرتها وتقربت من أهلها وناسها الأصليين- أنا المولوعة بالأساطير والحكايا وأخبار العابرين- إلا ولاحظت بأن البعض من نسائها، ذات شأن كبير وكبير جدا ووضع متميز في كل مراحل حياتهن. نساء، غير تلك الموثقة أسماؤهن طبعا في كتب التاريخ مثل الكاهنة أو تينهينان أو فاطمة نسومر، أو غيرهن ممن ترسخن في الذاكرة الجمعية، أو تلك اللواتي تمكن من توثيق شهاداتهن الشخصية. فقط لو يجتهد قليلا المهتمون بشأن المرأة ومواقفها ونضالها، لوثقوا للكثيرات في كل المدن والقرى والمداشر في كل نقطة من الوطن. نساء قُدرن لدرجة أن بعضهن دخلن قلب الأسطورة واستوطنّ عمقها، لكثرة تداول سيرتهن وما قدمنه للمجتمع من خدمات في مختلف المجالات، حتى أن بعضهن يصنفن كوليات صالحات لهن كرامات تبنى لهن المزارات والقبب. مثلا، حكايات القابلات والطبيبات الشعبيات، وذلك الدور الذي لعبنه في مختلف المواقف الاجتماعية والانسانية والنضالية، خاصة الدور المتميز الذي قمن به إبان الثورة التحريرية، دوخن المستعمر دون أن يتنبه لدورهن الذكي والخطير في مواجهته. كانت بيوتهن مقرا للاجتماعات السرية، وأمكنة مناسبة لتوزيع المهام وتحديد المسؤوليات للكثير من المسبلين والثوار وحتى الأطفال منهم إيناثا وذكورا، ومراكز ولجمع الأدوية وكل المستلزمات التي كانت الثورة في حاجة إليها، والتي كانت تصل بانتظام وفي وقتها المحدد إلى المخابئ في كل الأمكنة وخاصة تلك الصعبة والمستعصية. النساء الخياطات اللواتي خيطن الأعلام والألبسة، ولا زالت حفيداتهن يحتفظن بماكينات الخياطة إلى حد الآن وأنا واحدة منهن، تلك الحائكات اللواتي نسجن الجلابيات والبرانس والألحفة في أحلك الظروف لجنود رجع منهم من رجع واستشهد من استشهد. كم رسائل ووثائق وأموال وصلت عن طريق هؤلاء النساء. هناك نساء أيضا اقترنت أسماؤهن بالكثير من الأعمال الخيرية التي قدمنها لمجتمعهن بسخاء ونكران للنفس. السيدة حليمة زياني بن يوسف المعروفة بالقايدة حليمة التي استلمت أملاك وثروة زوجها وسيرتها وأثرتها بذكاء فائق، ساعدت الحركة الثورية حتى قبل اندلاع الثورة التحريرية في 1954، بدون أن يتنبه المستعمر لذلك، مستغلة اسم ونفوذ عائلتها وعائلة زوجها وشخصيتها القوية التي كان يهابها الجميع، ابنتها ستي التي انخرطت في الثورة مقدمة لها الكثير، وابنة أختها بلقايد خيرة بن داوود التي كانت عضوا فعالا في حزب الشعب الجزائري وحركة انتصار الحريات، والتي جمعت الكثير من الأطفال المشردين واليتامى بعد مجزرة الثامن من ماي في سطيف وقالمة وخراطة، وقامت بتعليمهم وتربيتهم في مدينة وهران، كما قامت ببناء مستشفى بالمدينة الجديدة حسب ما ورد عن بعض الباحثين. يحضرني الآن اسم يحمل أكثر من دلالة لقوة حمولته وما احتوى قلبه من أسماء عادية وأسماء تاريخية، اسم لالة العالية حمزة النايلية ابنة محمد بوترعة وفاطمة شعبان. سميت باسمها مقبرة العالية في الجزائر العاصمة. امرأة نافذة. كانت لها سلطتها بحكم ثروتها الكبيرة وموقعها الاجتماعي، مثلها مثل القايدة حليمة في المرتبة الاجتماعية، كل من موقعها الخاص، وهما تقريبا من نفس الجيل وعاشتا نفس المرحلة الاستعمارية، لم ترض وهي ترى أبناء وطنها يدفنون في فوضى وكيفما اتفق، بحكم الاستعمار والفقر والحاجة، فتبرعت سنة 1928 بقطعة أرض شاسعة مساحتها 800 ألف متر مربع للإدارة الفرنسية، لتكون مقبرة خاصة بالمسلمين بشرط أن تحمل اسمها. هي الأخرى تكفلت طول حياتها باليتامى وعلى رأسهم أبناء أختها *حبارة*. أنشأت مدرسة بمالها الخاص وتكفلت بإدارتها لاحتضان الفتيات اليتيمات وتعليمهن، مع زوجها كرميش محمد خريج المدرسة العليا للأساتذة سنة 1922والذي كان يدرس اللغة الفرنسية. نساء أخريات أعرف بعضهن شخصيا، ومنهن ماما ميزار التي تبرعت بقطعة من إرثها الخاص في قريتها سيدي بوجنان، ليقام فيها النصب التذكاري لشهداء المنطقة، على أرواحهم الرحمة والسلام. لنحفر قليلا في الذاكرة، هناك ما هو جميل ويساعد على الارتقاء إلى ما هو أجمل وأرقى.