إن غياب الاهتمام بتواصل الأجيال أنتج شبه قطيعة بين الشباب و بين الفئات الأكبر سنا , تجلت بوضوح في الحراك الشعبي الذي جمع مختلف فئات المجتمع مع غلبة فئة الشباب و حضور مكثف أيضا للمراهقين . و كشفت المطالب بالتغيير السياسي الجذري و الفوري في البلاد الذي ترفعه هذه الفئة , مدى الاحتقان الذي تختزنه, و مدى طموحها نحو غد أفضل للجزائر و للجزائريين , ,و إذا علمنا أن تعداد الشباب و الشابات الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 39 سنة يقدر بحوالي 17,6 مليون نسمة نصفهم ذكور , تبين لنا مدى القوة التي تحظى بها هذه الفئة في أي استحقاق انتخابي ديمقراطي ما دامت تزن انتخابيا ما نسبته 73,33 % من الهيئة الناخبة الجزائرية , و بالتالي إذا أراد الشباب فعلا التغيير فهم صناعه بالمقارنة مع بقية فئات المجتمع , و يمكنهم تحقيق ذلك عبر الحراك الشعبي , و لكنهم في إمكانهم بلوغ ذلك كذلك عبر صناديق الاقتراع , إن هم تخلوا عن عزوفهم المزمن عن المشاركة في الحياة السياسية و في الاستحقاقات الانتخابية على وجه الخصوص , و تجنبوا في نفس الوقت الاختلاف حول ما يجمع الجزائريين و ما يضمن تواصل الأجيال من منطلق أن الجزائر في حاجة إلى تكاتف جميع أبنائها لوضع أرضية سليمة و صلبة لتأسيس الجمهورية الثانية التي لا شك أنها ستبقى منقوصة الأركان إن أصر شباب الحراك الشعبي على إقصاء أية فئة من الجزائريين تحت أية ذريعة كانت. فالشباب قوة عندما يقتدي بشباب ثورة نوفمبر , الذي وضع هدفا و جمع حوله كل شرائح المجتمع , و تسلح بالاعتماد على النفس , فتحقق على يديه النصر المبين الذي أعاد الجزائر للجزائريين , لكن القوة وحدها لا تكفي في غياب البديل الذي يضمن الحفاظ على الجزائر «حرة ديمقراطية» التي ينادي بها الحراك الشعبي , و القوة التي لا تصنع لنفسها البديل المنشود , تظل قوة ناقصة تنتظر من يكملها, و البديل المطلوب لا يتلخص في شعارات يضعها كل متظاهر حسب مزاجه و هواه ,و يرددها الجميع رغم ما تتضمنه من تناقضات تحول دون تجسيدها على أرض الواقع حتى و إن سايرتها بعض النخب المثقفة من باب التشجيع لهذا الحراك , عله يصل إلى حل توافقي يعيد التواصل بين الأجيال لتجاوز الأزمة الحالية وفق ما يقتضيه العقل السليم الذي يرفض التطرف و الإقصاء و التمييز بين مكونات المجتمع . يرفضها لأنها تسيء ليس لصاحبها , و إنما لجميع العلماء و الفلاسفة الذين أفنوا أعمارهم في التنظير «للتفكير المنطقي», و لعل من أبرز مبادئ هذا النوع من التفكير , استحالة تبني فكرة و نقيضها في آن واحد , لأن ذلك يضعفهما معا . و مثال ذلك أن كل من ركب موجة الحراك الشعبي من شبابنا , يتبنون فكرة مفادها:«أن الرئيس المنتهية عهدته بحكم وضعه الصحي , ليس هو من يقود البلاد , إنما هناك من يقودها باسمه «, و هي فكرة برر بها هؤلاء موقفهم برفض العهدة الخامسة , و بحجة أنهم لا يقبلون أن تحكمهم سلطة لا وجود لها في دستور البلاد . و لا شك أن مثل هذا الطرح يحظى بنسبة كبيرة من المؤيدين ضمن النخب الجزائرية , و هو أمر متاح لهم , و هم أحرار في تبنيه بحجج دستورية قانونية كما يقولون أو لأسباب غير معلنة . تراجع دورالمنظمات الجماهيرية غير أن الواقع المحير , أن نفس الفئة التي ترفض الانقياد لسلطة رئاسية موازية حتى و إن أمكن تحديدها هوياتها, تنقاد تلقائيا لحراك شعبي ما زالت تحركه «جهات مجهولة» (قد لا تكون جزائرية أصلا)عبر صفحات الفيسبوك , و هي جهات حرَّضت حتى تلاميذ المتوسطات و الثانويات على ترك مقاعد الدراسة للمشاركة في مسيرات يومية ,بدعوة تتكرر كل يوم, عبر مدونات شخصية في الفيسبوك, دون أن تتعرض هذه الجهات إلى المساءلة من طرف الوزارة الوصية أو منظمات أولياء التلاميذ ؟ كما أن الفيسبوك هو الذي دعا إلى الإضراب العام , أو العصيان المدني خلال الأسبوع الماضي الذي تضررت منه بالخصوص الفئات الاجتماعية الهشة التي بدونها يفقد الحراك الشعبي زخمه. و من أمثلة المواقف المتناقضة للنخبة الشبانية, احتجاج الجامعيين من أساتذة و طلبة , على قرار وزارتهم بتقديم و تمديد عطلة الربيع , معللين موقفهم بكون القرار يؤثر على استكمال البرنامج البيداغوجي للطلبة , و بعدم استشارتهم في الموضوع , و هي تبريرات تناقض الواقع لأن تحديد رزنامة العطل كانت دائما من صلاحيات و مهام الوزارة الوصية منذ نشأة الجامعة الجزائرية , و لكن الأغرب التحجج بالجانب البيداغوجي , و قد ضرب به الجميع عرض الحائط , للتفرغ للمشاركة في المسيرات و الوقفات اليومية في مختلف الجامعات الجزائرية واضعين مشوارهم الدراسي في مؤخرة اهتماماتهم؟ و لذا نعتقد أنه عندما يخْضِع شبابنا مواقفهم لقسطاس التفكير المنطقي السليم , عندئذ قد تنقشع غشاوة «الذاتية» لرؤية حلول أكثر واقعية للوضع في البلاد , ومن لا يستفيد من تجارب من سبقوه في الممارسة السياسية قد يسيء استغلال الفرص المتاحة له للمساهمة في تغيير المشهد السياسي وفق تطلعاته و طموحات أتباعه , و لعل تجربة الحزب العتيد خير مرجع لمن يريد الاعتبار في هذا الشان ,حيث من منطلق السلطة شبه المطلقة التي تمتع بها الأفالان خلال و بعد ثورة التحرير, تمكن من التحكم في جميع القوى الحية في البلاد , عبر شبكة منظماته الجماهيرية المهيكلة للشباب و الطلبة و الكشافة و النساء و الفلاحين و العمال و التجار و الحرفيين و الجمعيات و مختلف التنظيمات المهنية إلى جانب المركزية النقابية المسيطرة على النشاط النقابي , و كذا الإعلام الذي ظل مرتبطا بالسلطة عبرقطاع عمومي يخدم بالدرجة الأولى توجهات الحزب العتيد , و هو ارتباط له نصيب من الشرعية الثورية , كونه تأسس في خضم ثورة التحرير الوطني مثل بعض النشريات و الصحف المكتوبة , و الإذاعة و وكالة الأنباء فضلا عن الوسائط السمعية البصرية , مثله في ذلك مثل الاتحاد العام للعمال الجزائريين , و اتحاد الطلبة الجزائريين المسلمين ,و اتحاد التجار و الحرفيين الجزائريين و الكشافة الإسلامية الجزائرية و بعض الجمعيات الوطنية و من أبرزها فريق جبهة التحرير لكرة القدم ... تحكم في مختلف الفئات و مع هذا التحكم في مختلف الفئات الاجتماعية عبر هذا التنظيم العمودي و الأفقي لمكونات المجتمع الجزائري , غير أن جبهة التحرير لم تنج من بعض محاولات التمرد على سلطتها شبه المطلقة , و من طرف بعض أبنائها و لكن كل هذه المعارضات لم تترجم إلى كيانات حزبية إلا بعد فتح أبواب التعددية الحزبية التي أنتجت أكثر من 76 حزبا موزعة على مختلف الألوان الإيديولوجية , لكنها ظلت قليلة الفعالية السياسية و ضعيفة القدرة على تعبئة الشعب و تأطير توجهاته بالمقارنة مع الحزب العتيد الذي فرضت عليه ضغوط و شروط الممارسة السياسية في ظل التعددية الحزبية , إلى التخلي عن المنظمات الجماهيرية التي احتكر مناصب القيادة فيها أشخاص أغلقوا أبواب و نوافذ تجديد و تغذية مفاصل هذه التنظيمات بدماء جديدة فتسببوا في شللها و تهميشها عن.. «حزب جديد ..» .. مسايرة متغيرات أوضاع البلاد و لاسيما من حيث قنوات التواصل مع شريحة الشباب ففقدت هذه المنظمات تدريجيا دورها في تأطير مختلف الفئات الاجتماعية . وهو مما يفسر جزئيا ظاهرة عزوف الشباب عن الانخراط في هذه المنظمات الجماهيرية أو الأحزاب المرتبطة بها , و اللجوء إلى «الفيسبوك « و مواقع التواصل الاجتماعي , للتعبير عن أفكارهم و ممارسة النضال الاجتماعي في خدمة الغير . و لأن «حزب الفيسبوك « لا يوصل إلى المناصب الانتخابية , يضطر الشباب (و غيرهم) إلى الانخراط الموسمي المناسبتي في بعض الأحزاب طمعا في الفوز بعهدة انتخابية. و الملاحظ على هذه العلاقة «المناساباتية « بين شباب الفيسبوك و بين الأحزاب الموسمية , لم تتأصل لتفتح بوابة النشاط السياسي للشببية , و تسهم بالتالي في تشبيب الطبقة السياسية على الأقل إلى المستوى الذي تمثله نسبة الشباب في المجتمع , أي 60 في المائة ؟ للتذكير فإن بيانات الانتخابات المحلية الأخيرة التي جرت في 23 نوفمبر 2017 , رفعت سن الشباب إلى 40 عاما , و مع ذلك ظلت نسبة المترشحين دون هذه السن , أقل من 52 في المائة بالنسبة للمجالس البلدية, و في حدود 48 في المائة بالنسبة للمجالس الولائية . مع التذكير هنا, أن نسبة الشباب الفائزين بمناصب انتخابية يقل بكثير عن هذا السقف , لأن الأحزاب غالبا ما ترفع شعار التشبيب في اختيار مرشحيها للاستحقاقات الانتخابية , لكنها سرعان ما تغض عنه الطرف, لدى إعدادها قوائم المرشحين ,بوضع الشباب في مراتب لا تمنحهم أدنى حظ في الفوز بمنصب انتخابي , مما يُشْعِر الشباب ,أن الأحزاب تستعملهم كورقة للترويج لقوائمها الانتخابية, التي يتصدرها الشيوخ عادة .و هو ما ينفر هذه الفئة الاجتماعية من الأحزاب و من الممارسة السياسية , و غالبا ما يتجلى هذا النفور من خلال المواقع الإلكترونية التي يواظب الشباب على زيارتها عبر الشبكة العنكبوتية إذ تشير دراسات مُحْكَمَة في هذا الخصوص إلى قلة اهتمام هذه الفئة بالمواقع ذات المحتوى السياسي , و إلى اهتمامهم أكثر بمواقع التوظيف , و بفرص العمل في الخارج , و بالزواج بالأجنبيات و بالمواقع العلمية و التعليمية بالنسبة للطلبة و الدارسين , فضلا عن مواقع الرياضة و أخبار الرياضيين . كما هناك من يرى أن طريقة ممارسة السياسة جعلت الشباب متشائما بخصوص مستقبل الديمقراطية في البلاد , و يعتقد أن نسبة العزوف عن السياسة ستتعاظم .هل تعكس هذه المواقف حاجة الشباب إلى أسلوب خاص بهم للتواصل السياسي معهم ؟ أم هم أنانيون في مواقفهم من السياسة و من السياسيين ؟ كلها تساؤلات تتطلب أجوبة صريحة من الشباب أنفسهم عبر قنوات عليهم اختيارها بأنفسهم ما دام المجتمع السياسي عاجزا عن التواصل الإيجابي مع هذه الفئة . كما أن النسيج الجمعوي , , الممثل بأكثر من 100ألف منظمة غير حكومية معتمدة , لا يتوفر على الإمكانيات المالية و البشرية و حتى التنظيمية و القانونية الكافية للقيام بأدوار التعبئة أ.بن نعوم