لو عدنا قليلا إلى الوراء,لاكتشفنا أن محاولة إقحام الجيش الوطني الشعبيى في الشأن السياسي , لم تنشأ مع الحراك الشعبي , و إنما سبقتها دعوات من أحزاب و شخصيات سياسية إلى نائب وزير الدفاع قائد أركان الجيش شهورا قبل الحراك إلى المساهمة فيما وصفوه ب«الانتقال الآمن و السلس إلى نظام ديمقراطي « , و هو المطلب الذي تقدم به من قبله أحد الشخصيات السياسية ممن تقلدوا سابقا مناصب سامية في النظام الذي يريدون تغييره بسلاسة و بمشاركة المؤسسة العسكرية؟ و هي المساهمة التي يواصل البعض في انتظارها من الجيش , لكن كلا بما يوافق تطلعاته , و يسهل له الحصول على حصة من السلطة التي يصبو إليها حتى و إن كان يفتقر إلى نصاب من الشعبية التي تخوله التمتع بها . و أمام هذه الدعوات ظلت قيادة الجيش تؤكد للجميع بأن « المؤسسة العسكرية حريصة على النأي بنفسها عن التجاذبات السياسية في البلاد «...و»أن الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني، سيظل يحمي الجزائر، حافظاً لطابعها الجمهوري، ومتمسكاً بالمهام التي خولها له الدستور ...حريصا كل الحرص على النأي بنفسه عن كافة الحساسيات والحسابات السياسية». و عند العودة إلى الدستور سنجد ديباجته تحدد مهام و صلاحيات الجيش الوطني في فقرتيها 16و17 حيث تنص اولاهما على :« إنّ الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني يتولى مهامه الدستورية بروح الالتزام المثالي والاستعداد البطولي على التضحية كلما تطلب الواجب الوطني منه ذلك. ويعتز الشعب الجزائري بجيشه الوطني الشعبي ويدين له بالعرفان على ما بذله في سبيل الحفاظ على البلاد من كل خطر أجنبي وعلى مساهمته الجوهرية في حماية المواطنين والمؤسسات والممتلكات من آفة الإرهاب، وهو ما ساهم في تعزيز اللحمة الوطنية وفي ترسيخ روح التضامن بين الشعب وجيشه». كما تنص الثانية على أن :«تسهر الدولة على احترافية الجيش الوطني الشعبي وعلى عصرنته بالصورة التي تجعله يمتلك القدرات المطلوبة للحفاظ على الاستقلال الوطني، والدفاع عن السيادة الوطنية، ووحدة البلاد وحرمتها الترابية، وحماية مجالها البري والجوي والبحري».كما أكدت المادة 28 من الدستور بفقراتها الثلاث هذه الصلاحيات المتمثلة في انتظام « الطاقة الدفاعية للأمة، ودعمها، وتطويرها، حول الجيش الوطني الشعبي.»و تمحور:« المهمة الدائمة للجيش الوطني الشعبي في المحافظة على الاستقلال الوطني، والدفاع عن السيادة الوطنية.»و اضطلاعه :« بالدفاع عن وحدة البلاد، وسلامتها الترابية، وحماية مجالها البري والجوي، ومختلف مناطق أملاكها البحرية.» مع هذه الصلاحيات و المهام العسكرية الدفاعية المحضة , يتطلع بعض السياسيين إلى اضطلاع المؤسسة العسكرية بحكم شعبيتها و مرافقتها مختلف مراحل تغيير النظام السابق ,إلى المساهمة في الانتقال الديمقراطي في البلاد , إلى حين وضع المؤسسات الدستورية البديلة و إقامة دعائم الجمهورية الجديدة, و يدعو أصحاب هذا الموقف الجيش إلى استلهام تجارب الانتقال الديمقراطي في الشيلي , و البرتغال و إسبانيا , و كلها تجارب استغرقت سنين طويلة تحت حكم «العسكر» دامت 11عاما في إسبانيا و حوالي 7 سنوات في الشيلي (في اقل التقديرات) و أكثر من سنتين بالنسبة لثورة القرنفل في البرتغال ؟ فهل تتحمل الجزائر مثل هذه المراحل الانتقالية الطويلة المدى بقيادة الجيش الوطني ؟ و هل يحظى هذا الحل موافقة جميع أطراف الساحة السياسية و الفئات الشعبية ؟أم أنه يتوافق فقط مع الأطراف التي ترى أنها لم تتهيأ بعد لاختبار شعبيتها في استحقاق انتخابي بعيدا عمن لاحقتهم شبهة تزوير الاقتراع ؟ ومقابل من يدعو وينتظر تدخل الجيش مباشرة في الشأن السياسي و حتى خارج الحدود الدستورية, هناك من يعتبر المؤسسة العسكرية متورطة في الأزمة السياسية, وأن كل المطالب الشعبية التي تحققت , إنما تحققت بضغط من قيادة الجيش , في إشارة إلى تفعيل المادة 102 من الدستور وما تمخض عنها من استقالات و إقالات وفي هرم النظام السابق وإحالات لملفات الفساد على القضاء , بل وهناك من تساءل ما إذا كان الفريق أحمد قائد صالح قائدا لأركان الجيش أو رئيسا للحكومة, بعد دعوته إلى تسهيل مهام أعضاء الحكومة وعدم عرقلتها, محذرين من تكرار التجربة المصرية في الجزائر. وبين هؤلاء وأولئك, يصر قائد أركان الجيش الوطني على دور الذي حدده الدستور لمؤسسة الجيش, وبمرافقة العملية الانتقالية وفق ما نص عليه الدستور ,وفي حدود ما تسمح به وظيفة قائد أركان الجيش السياسية بحكم منصبه في الحكومة كنائب لوزير الدفاع الوطني , وهي جزئية غالبا ما يتم التغاضي عنها لحاجة في نفس أصحابها. فبين المراحل الانتقالية الطويلة المدى التي استبعدها الشعب برفض التمديد للرئيس المستقيل, وبين القفز في المجهول خارج مجال الفضاء الدستوري وإسقاط كل مؤسسات الدولة جملة وتفصيلا, اختارت مؤسسة الجيش أوسط الطرق وأقصرها, الاحتكام إلى صندوق الاقتراع لسد شغور منصب الرئاسة في اسرع الآجال الممكنة, ليتولى الرئيس المنتخب شعبيا وضع قواعد النظام السياسي الجديد الذي يطالب به الشعب. وبالتالي فإن الجيش أدرى بما هو مهيأ ومخول له من أدوار في كل خطوة من خطوات المرحلة الانتقالية.