من هنا مروا بلافتاتهم وألوانهم وهتافاتهم، بابتساماتهم وقهقهاتهم مسكونين بغد لم تتضح معالمه بعد، لا زال الغموض يلفه ولا زال المبهم يحوم حوله، صراخهم لغة وصمتهم لغة وعنادهم وإصرارهم أوامر. من أين جاؤوا كيف جاؤوا وإلى أين يتجهون؟؟ !!! لا يحسبون حسابا لا للجدران ولا للحواجز ولا للوعد والوعيد، لم يعد للممنوع والمسكوت عنه أي حيز في قاموسهم. هم كل التواريخ وكل الأزمنة وكل الأمكنة في حلقات متواصلة متراصة ومتينة. هم كل العلامات والبصمات والأوشام التي صاغت كل شبر في هذا الوطن. بالنسبة لهم لم يعد هناك أي مجال للمراوغة واللعب بالعواطف؛ بعد أن دجنت وهمشت أجيال بأكملها، وبعد أن احتقن الكلام وكادت الأحلام أن تتحول إلى أكوام من رماد. لا مجال معهم لشد العصا من الوسط؛ ذلك الزمن قد ولى ولا بد أن ينتهي ويصبح في طَيّ النسيان . لا وقت ولا حاجة للكلام المعسول والوعود الزائفة والخطب الرنانة المنحوتة من الكتب الصفراء. جيل لم يعد يكفيه السماع، بل هو في حاجة ماسة وملحة إلى إنصات هادئ وإلى إصغاء عميق وعميق جدا لنبضه. جيل يستشعر الخطر ويلمس لون الكذب ويتحسس سياسة اللف والدوران . جيل لا يهادن، نفسه مقطوع من كثرة الانتظار والانتظار والانتظار، وصبره ليس مثل صبر الأولين الذين صنعوه في صمت وهدوء واحترقوا لينيروا له الطريق، ورحلوا في صمت أو انزووا بعد أن سدت في وجوههم الأبواب. جيل يحاول أن يرتب قطيعته كما يريدها هو؛ وليس كما تملى عليه أو كما تخطط لها وترتبها المخابر التي تعودت صياغة وترتيب البيت العربي والإسلامي، حسب المصالح وجغرافية الخيرات والقدرات والموارد التي لم تعد ملكا لشعوبها. بلدان غنية وشعوب تموت جوعا وقهرا وقمعا وظلما، أموالها تصرف في شراء ما استجد من أسلحة لقتل الأخ قريبا كان أم بعيدا، وليس لمواجهة العدو المرئي أو المحتمل. العراقي يموت والليبي يموت والسوري يموت واليمني يموت والسوداني على حد الشفرة والتونسي بين المطرقة والسندان والجزائري على كف عفريت. البنية الاجتماعية الجديدة وكل مكوناتها التي ورثت وبشكل طبيعي وعيا تشابكت فيه نضالات متنوعة وعلى كل الأصعدة؛ كأنها استوت على نار هادئة ودون ضجيج لتنفجر بركانا لم يحسب حسابه وطوفانا يعيد صياغة منابعه ومجراه، ويعيد تشكيل المجتمع وفق مقتضيات الحال؛ إذ لا شيء ينشأ هكذا بالصدفة وبالضغط على الأزرار، ولكنه يكبر في ظلمة الواقع اللامرئي قبل أن يتحول إلى عاصفة تهز كل شيء في طريقها، واضعة حدا نهائيا لما تصوره سادة الشأن كأنه شيء خالد وأبدي ونسوا بأن الظلم لا يمكنه أن يستمر إلى ما لا نهاية، من هنا نشأ جيل فقد ثقته في كل شيء، فكفر بالاديولوجيات وبالأحزاب وبالوطنية الفجة والمتضخمة، دون أن تعطى له الفرص الموضوعية والعقلانية لدراسة تاريخه وتفكيكه ولمسه بكل اختلافه وتنوعه الثقافي والديني واللغوي، احتواء تاريخه على حقيقته بانتصاراته وإخفاقاته، ونبذ النظرة الأحادية للأشياء. جيل نفر من الأبوة التي لم تعد خطاباتها كافية لإقناعه فرأى فيها سببا لكل التعثرات والانزلاقات والخيبات التي حدثت لاحقا؛ أبوة لم تنجز أي شيء مهم بالنسبة لمجتمع الحداثة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، الذي رفعت لواءه عاليا في خطاباتها دون القدرة على تحقيقه عمليا. جيل يحاول وبآليات لا زالت تتشكل بين يديه أن يصوغ نظرته الجديدة لمستقبل يريد أن يكون هو سيده دون وصي ودون وصايا، وبإصرار لا رجعة فيه مبرهنا أنه « ما ضاع حق وراءه طالب» مهما طال الزمن لأن مبدأ العدالة والحريّة من القيم الدائمة التي لا يصيبها لا التحلل ولا الصدأ.