عندما تكون أمام نصوص ديوان من نوع: «ذهبت مع الفكرة حتى نهايتها، ثم واصلت وحدي»، للشاعر الجزائري المغترب عمار مرياش، تتلعثم بعض المقاربات التي تؤسس على مناهج أكاديمية صارمة اعتدنا على التعامل معها في قراءة المنجز. ذلك أنّ بعض القصائد، وكثيرا من المقاطع الشعرية لا يمكن القبض عليها بالاعتماد على النظريات والمصطلحات النقدية المتاحة التي قد تستوعب النثر وما تعلق بالمعيار المتواتر، دون بعض الأشكال التعبيرية الأخرى التي تحررت من القيد واختارت أن تعيش منزاحة عن النموذج، بعيدا عن الضوابط الممكنة التي نتكئ عليها في ثنائية التقييم والتقويم. وجدت في هذه الأشعار، عدة عوالم متشابكة، وتداخلات معرفية أثثت مجموع النصوص لتجعلها منفتحة،وقابلة لقراءات أخرى وممكنات تأويلية تجعلها أكثر ثراء. هناك ظلال كثيرة يمكن استنباطها، من أرتور رامبو إلى محمد الماغوط إلى عمرو الخيام، وصولا إلى بودلير، وقبل هذا وذاك عالم عمار مرياش المخصوص الذي حدث أن اكتشفته قبل ثلاثين سنة من خلال القصائد التي سينشرها لاحقا في دواوين لها بطاقتها الثبوتية الدالة على فرادتها وأصالتها، ومنها اكتشاف العادي والحبشة، دون أن تكون هناك تأثيرات للوافد من النصوص الغيرية التي عادة ما تستقبل بإملائية، وبنوع من الحرفية والجاهزية. عمار مرياش ينطلق من حقله الخاص كمقوّم قاعدي غير قابل للمحو لأنه منه، ليغدوّ بذلك مرجعا لنفسه، ما يشبه اجتماع المبتدأ والخبر في كلمة مكتفية بذاتها، وليست بحاجة إلى مساند تدعم وجودها، كما لو أنه يكتب أفكاره، بحكمتها وفلسفتها وضلالتها وجانبها العبثي الذي يجمع ما بين المأساة والملهاة، دون أي اعتبار للتناقضات، إن لم تصبح هذه التناقضات قيمة جوهرية، وموضوعا له مسوّغاته الوجودية التي تكشف عنها مختلف المتون التي عادة ما تجاوزت العلاقات السببية المتعارف عليها في الكتابة. هناك أبنية متشظية، ومقاطع مزدحمة لا تربطها سوى خيوط دلالية في شكل متناثر، ومقصود لذاته لما يحمله من معان تتعلق بجوهر الهدم الدال على مقصد ما. إن الانتقال من فكرة إلى أخرى، ومن موضوعة إلى أخرى لا يحتكم، في كثير من القصائد، إلى منطق ترتيبي جامع، أو نموذجي، مع أننا نواجه، كقراء عاديين أو منبهين، شلالا من المتتاليات المربكة التي تبدو متسقة في ظاهرها بسبب الافراط في السرعة الناتجة عن تجاوز علامات الوقف، مع أنها ليست كذلك من حيث الجوهر. هذه التقنية المضللة للمتلقي تعمل على تمرير عدة ملفوظات وخطابات بمهارة الرّائي، دون الاحتكام إلى المعيار الموجه، كما لو أنّ الشاعر لا يرغب في أيّ امتثال للقواعد التي تضبط الفعل الابداعي برمته. هناك نسيج متوحش، بالمفهوم السردي والفلسفي، مع أنّ له مبررات نصية مقنعة، ودالة على مقاصد عينية يتم الكشف عنها من خلال التركيز على مختلف المتون.كما سعى الشاعر، في كثير من النصوص، إلى قلب ما كان متواترا، أو متفقا عليه كعرف، ومن ذلك مجموع القيم المحفوظة من فجر الخلائق، ومن ثمّ حلول نظرة مضادة محلّ نظرة معيارية قائمة. هل كان يرغب في التموقع بعيدا عن المقاربات الجاهزة بتفعيل منظوره الخاص. أو كما قال الفيلسوف جان بول سارتر: «الواقع هو العين التي تراه». أجل. لقد احتكم إلى عينيه وقناعاته ومساءلاته التي لا حدّ لها، ومن ثمّ هذا العدول عن النواميس التي غدت مرجعيات ثابتة بالنسبة للمرسل والمتلقي: «ظلمتني العصافير في الشجرة/ ظلمتني العناكب والطحلبيات/ شرفي لطخته البنات/ وأساء إلى طالعي كوكب الزهرة.../ هكذا اجتمع الحق والسوء ضدي/ وخاصمني صاحب البقرة/ حالة الكلب تزداد سوء، وقد/ كثر البرد والليل والذئب والحشرة/ ولأني أقول الحقيقة في الحق/ تكرهني تسعة العشرة». سيصبح هذا القلب قاعدة متواترة باطراد، ومنطلقا لرؤية العالم بحرية من لا ضوابط له في كون من القوانين التي تحدّ من القدرات التخييلية، ومن تحرير العين لتبصر العالم من زوايا لا تخضع للامتثالية الفجة التي أسهمت في ظهور قوالب ضاغطة. يحدث ذلك بتلوينات عدة، وبتموّجات متباينة قد تصبح سخرية من الذات واستهزاء بها، أو نقدا وتدميرا لها بشكل عابثومأسوي. هكذا يغدو الشاعر حطّابا وفأسا وحطبا، كما لا يحدث في التجارب التي تغفل هذا الجانب الكاذب من حياة الإنسان، أي ذاك الذي يعيش فقيها، ممتلئا بالمثل والنبوءات التي تجعله كاملا، كلّي الحضور والمعرفة، وكلّي الجمال، شيئا ما يشبه الآلهة الإغريقية القديمة. هناك في هذه النصوص حضور للأنا، وهناك، بالمقابل، تفعيل للضد المنتج للمعنى، الجزء الخفي من الكائن الذي نعثر عليه في رواية ذئب البوادي لهرمان هيسه، أو في بعض أشعار العبثيين الذين لا يقرّ لهم قرار بفعل تجاوز اليقين: «ولدت أنا الشاعر العربي الكبير بمنطقة الأربعاء/ تعلقت منذ الطفولة بالركض خلف الفراشات/ ثم خلف البنات/ كبرت كما يكبر العشب دون اهتمام النبات/ ولما بلغت من الخبث ما يبلغ السفهاء/ تدبرت أمري وسميت نفسي عمار مرياش/ لا إله إلا هو والله أكبر ما أصعب الشعراء». هكذا يعرف نفسه «الشاعر العربي الكبير» منتقدا الواقع بمسحة هزلية وارفة، وساخرا من المنظومة التربوية التي جعلت العبارة النموذجية متكأ، كلّ الشعراء كبار، وذوو عاطفة صادقة وجياشة وأسلوب رنان ولغة سهلة. أعتبر أشكال القلب هذه تحفا رؤيوية مفيدة للقصيدة الجريئة حتى تكتمل من كلّ الجوانب، وحتى تتفادى الغرق في عمى المنظورات الأحادية للأشياء التي عادة ما جعلت الشاعر مثالا ورمزا، كائنا معصوما من الزلل، ونبيا يجوب أرضا بلا صحراء. هناك في كثير من هذه القصائد لعب متواصل بالأبنية والمعاني القارة، فيض من البوح الآسر الذي يجاور اللادلالة في بعض المقاطع التي لا تكاد تقول شيئا، وتعرية للنفس الأمّارة بالصدق والسوء والورد وما تيسر من الملهاة التي تجعلك في مسرح فكاهي غريب لا منطلق له ولا وجهة، كما لو أنّ الشاعر في مجرّة أخرى يتسلّى بالعلامات التي تبدو فارغة، مع أنها ممتلئة ودالة عندما يتمّ التعامل معها بروية، وبحذق: «اللهم انصرهن/ اللهم وفّر زرعهن وضرعهنّ وصنْ فصاحتهنّ/ اللهم مكّنهنّ مني إن سهين دقيقة ونسينني/ اللهم يا اللهم/ بلا سبب، ولا ندري لماذا، أين؟» اللهم يا اللهم، بلا سبب، ولا ندري لماذا، أين؟ ثمّ... وإنه.تتردد هذه الاستعمالات الدادائية لتنقل ما لا يقبل النقل في عبارات ذات نسق منطقي: لحظات ضعف العلامة وعدم قدرتها على احتواء محمولات بحاجة إلى أنظمة بلاغية غير متاحة في الحقل اللساني. هذا الشكل المفارق نوع من التعبير عن حالات شعورية معقدة، وهلامية إلى حدّ ما. لقد كان زوربا الإغريقي يرقص بعض الجمل عندما لا يجد الألفاظ الكافية للتعبير عن الإحساس، عن النفس المهزومة أمام القناعات والأسئلة الخالدة التي لا حلّ لها. ذاك ما حصل للشاعر: تركيب مجموعة من الألفاظ غير المنسجمة للتدليل على العجز. ربما كان هذا الخيار ضروريا في سياقات تستدعي ذلك، لهذا تكررت هذه الاستعمالات بتنويعات مختلفة كنوع من التطهير، أو كطريقة من طرائق إدانة المعجم وأنماط القول المتفق عليها لسانيا وتداوليا، وإدانة للعالم الغامض أيضا، العالم الباهت الذي لا ذوق له: «كلّما شقت الأرضَ سنبلةُ/ حاصرتها المدافع والحاصدات/ كلّ فاتنة أطلقت شعرها/ لاحقتها الأصابع والشائعات/ استفسرت من روما إلى سبأ/ أخبرني الكاهن/ جاءني الهدهد بالنبأ/ وإنه/ سيسقط العالم، صار كله خطأ». قفلة: تفاجأت إذ عثرت في ديوان» ذهبت مع الفكرة حتى نهايتها، ثم واصلت وحدي» على قصيدة بالعامية تحمل عنوان» شايف دمعة»، وهي آخر نص في المجموعة. لم يحدث للشاعر عمار مرياش، في حدود متابعاتي لما ينشره من سنين، أن اهتمّ بالدارجة كوسيلة ممكنة للتعبير والكتابة. لقد ظلت لغته العربية راقية، لغة مجللة بالصور والأخيلة والاستعارات الحية، ومؤثثة معجميا بفعل تمكنه، رغم تمرّده على القوالب الشعرية التي يراها غير ضرورية للقصيدة، كما الممهلات التي تعيق الفعل الإبداعي وتجعله سجين الأوزان والقوافي، على حساب المعاني. ما الذي جعله ينحو هذا المنحى ويكتب بالعامية؟ هل كان يبحث عن قارئ آخر، أم إنها مجرّد تجربة جديدة باتجاه الزجل؟ «شايف دمعة ملثمة/ تتراقص/ في كأس/ ماء/ ملثمة ببرانس/ وعيون تتقايس/ برصاص يابس/ و شفايف شايف/ خايفة تتراجف/ ومارس/ يتهارس/ وقوايم و تتراجف/ عارف».