قراءة نصوص الكاتب المغربي علي بنساعود تدخلك في عوالم من بهجة العلامات المضيئة التي قد لا تصادفها كثيرا في بعض منجزنا السردي الجديد، رغم جودته. ذاك ما استنتجته من "حائك العتمات"، المجموعة القصصية الخامسة بعد صدمة الشفاه (مجموعة مشتركة)، ظلال ذابلة، انحناءات ملتوية، رايات بلا عبير، ورسومات حيطاني. لذلك لا نندهش عندما نكتشف أننا أمام قامة قصصية، ولذلك أيضا أتشرف بتقديم هذه المجموعة للقارئ العربي، أو أجزاء من مكوّناتها القاعدية، لا غير. وجدت في هذه القصص القصيرة جدا، على تنوعها الثريّ، شيئا مما كنت أبحث عنه في هذا الجنس الذي لم يجد ضالته بعد. هناك كثير من الاستخفاف بالحدود والضوابط، في نسبيتها. في حين تبدو مجموعة حائك العتمات واعية بالتقنيات الموظفة، لذلك تصدر عن معرفة بالمكونات الضرورية للنص وأسسه الموجهة، وهذا مكسب في حدّ ذاته من حيث إنه يضع فاصلا بين القصة القصيرة جدا والخاطرة والأقصوصة والقصيدة النثرية. الأستاذ علي بنساعود، كما تدلّ على ذلك مختلف مجاميعه القصصية، تجربة مؤكدة بالدرجة الأولى، ثمّ إنّ هناك اشتغاله على الزاد المعرفي (رسم، شعر، فلسفة، بلاغة، أجناس أدبية)والمتون والطرائق بشكل عميق ينمّ عن رؤية متقدمة للمادة السردية والأشكال الناقلة لها، ومن ثمّ التحكم في الكيفية واللمية بمهارة الصناع المحترفين الذين يدركون ما يفعلونه، إن نحن اعتبرنا الصناعة طرفا مهمّا في الفعل الإبداعي برمّته. لقد كنت أرغب، من أجل تقوية أسناد الملاحظات، في تقديم بعض العينات التمثيلية عن مسائل بدت لي راقية جدا في هذه النصوص المثيرة. بيد أني لاحظت، بنوع من الغبطة، كما قال أحد النقاد السوفييت قبل سنين، أني سأنقل الكتاب كله لأنه عبارة عن نماذج تستحق الإشارة إلى قيمتها الفعلية، ومن ذلك الأخيلة اللافتة والصور والتفاصيل والتلاعب النبيه بالعلاقات السببية الداخلية، بمفهوم تودوروف، وهي سمة غالبة، خاصة ما تعلق بالعلاقة ما بين المقدمات والخواتم المفارقة للمسارات الحكائية التي قد تنبئ بنهايات أخرى، غير تلك التي نرسمها في أذهاننا نحن المتلقين. خيبة أفق الانتظار سمة متواترة في هذه القصص القصيرة جدا بالنظر إلى التأسيس على حيل سردية مقلوبة، ومضادة للمنطق، وللألفة في آن واحد. ذلك أنّ الكاتب، في أغلب الحالات، يضع مسافة بين العلة والمعلول، بين الفعل وردّ الفعل، بين الحالة والفعل والحالة،وبين المقدمة والمسار والمآل. لذا يتقوّى عنصر المفاجأة لمسوّغات وظيفية، مانحا النص قوة تأثيرية خاصة، وفي ذلك جهد مضاعف ليس من السهل تحقيقه، ما عدا إن أصبح موضوعا في حدّ ذاته، أو غاية من غايات السرد. يمكننا الإشارة مثلا إلى قصص: تفاصيل، يتم، كمين، اعتراف، نبوءة، رماد، أرصاد، ضجيج، صنعة، دفء، حادث، إلى غير ذلك من القصص التي جاءت فيها النهايات مثيرة، وغير متوقعة أبدا. "كان رائعا أمام جلاده، معرّى يتلوّى والدم يلطخ الأرجاء...يعلو الوجوه إعجابٌ"، "لم تفارقني الدهشة، مذ رأيت أول قطار في حياتي (...) في الطريق رأيت نساء يسرن في اتجاه المحطة (...)، وكان القطار واقفا ينفر، مختلسا النظر إليّ ويبتسم"، "أخرج من جيبه حزمة من الرؤوس والأيدي والسيقان والأنوف النازفة (...) كان منخرطا في تركيب كائنات جميلة، يبدأ من هامة الرأس لينتهي بالقدمين (...) حررت في حقه مذكرة بحث من أجل: انتحال صفة، وترويع المواطنين"، "خرج أبي ولم يعد...جاءوا يبحثون عن أخي...أخذوا أمي...رجعت وحدها دون أن تعود"، "آخر مرة، غادرت المنزل خلسة، ألقت بنفسها من على جسر...بعد أيام انتشلت جثتها من على سرير". ثبتنا بعض المقاطع المنتقاة من قصص: تفاصيل، ضجيج، صنعة، ذهول و حادث، وهي لا تحتاج إلى أيّ تدليل كيما نثبت اهتمامات القاص بتقويض العلاقات الرياضية القائمة بين الأحداث والحالات، بهذا الفصل البيّن ما بين المنطقي، بقواعده ونموّه الفرضي، وبين خياراته السردية التي عملت على تقويض النموذجي لغايات دلالية وفنية في آن واحد. يجب الانتباه إلى هذه القيمة. من المهم أيضاّ، في هذا السياق، معرفة قصيدة الهايكو لفهم هذه الخيارات البنائية المجاورة التي قد نعثر عليها في أجزاء من ألف ليلة وليلة، كما ورد في كتاب "شعرية النثر"، ونقصد ها هنا ما تعلق بالتحايل على قانون الحياكة المتعارف عليه في الكتابة والقراءة، أو ما تعلق بالعقد الذي يجمع المرسل بالمتلقي. ما يعني أنّ تجاوزه، أو انتفاءه، هو شكل من أشكال إثارة القراء وزعزعة أذواقهم بنباهة، ومن ثمّ إيقاظ الأسئلة، وفي ذلك مكسب للسرد لأنه يبلبلهم بوعي ومعرفة سردية، ودون أي ترف ذهني عابث لا وظيفة جمالية أو دلالية له. ثمة، من منظوري، مقاصد مدروسة بعناية كبيرة، وبمهارة العارف بالشأن، ما يجعل الخواتم، في نهاية الأمر، نتائج منطقية، رغم أنها تبدو، من حيث التجليات اللفظية والجملية، مناقضة لذلك. يجب التركيز على السياقات لإدراك هذا النزوع نحو هدم السببية الداخلية الممكنة، أو تلك التي نتصورها. نشير، إضافة إلى هذه الملاحظات الجزئية التي فرضتها طبيعة النصوص، إلى القوة التخييلية للكاتب، وهو أمر له مكانة خاصة في المنجز. لقد لاحظت، بكثير من الإعجاب، لجوء الكاتب، باحترافية واضحة، إلى الخيال المغالي، متجاوزا بذلك الإملائي، أو ما قد يحدث هنا وهناك، بمفهوم الجاحظ. والواقع أنّ هذه القصص القصيرة جدا أحالتني، بشكل ما، إلى ما قاله الزعيم نهرو قبل سنين:" إن مملكة الخيال أصدق وأبقى من مملكة الواقع والحقائق"، وذاك تحديدا ما ينسحب على هذا الجهد المتميز الذي يحتاج إلى قراءة أعمق من هذه، أكثر دقة وشمولية،، وليس إلى تقديم موجز قد لا يفيه حقه. يحتلّ الخيال إذن جزءا معتبرا من النصوص، وهكذا يغدو قاعدة، في حين يصبح الواقع شاذا، شيئا في أدنى درجة، وغير ضروري للحكايات لأنها تكتفي بمادتها التي أنتجتها من فراغ، أي بموضوعاتها المتخيلة التي ليست ذات علاقة واضحة بالمحيط الخارجي، أو بالحقيقة العينية. هناك ما يشبه الاكتفاء الذاتي، دون الحاجة إلى الواقع، رغم أنه مقصود. لكنه يأتي خافتا أو ممحوّا، أما ما يمكن أن يجعله قائما فهو التأويل، أي محاولة القارئ الربط، ولو بشكل اعتباطي، ما بين النص والإحالة، وما بينه وبين الفضاء الفرضي للأحداث. لا يمكن أبدا القفز على الخيال في حائك العتمات لأنه جوهر من الجواهر الموجهة (قصة عرس مثلا)، ولأنه هدف أيضا. لقد سعى الكاتب، في كلّ القصص، إلى تغليبه على الحرفية لغايات فنية، مع أنّ ذلك يستدعي قدرات استثنائية، وشحذا مستمرا للأفكار من أجل إخراجها من دائرة اليومي، إلى عالم قابل للتحيين، لا غير، ذلك لأنه في علاقة فصلية بالمتواتر واليومي، وهذا جهد آخر يستحق الإشادة. يمكننا الإشارة، كقفلة مفتوحة، إلى الجانب الشاعري الذي ميّز قصصا كثيرة (قصة جغرافيا عينة)، وهو جانب مهمّ قد يكون موضوعا مستقلا لدراسة أكاديمية مستقلة، أو إلى الطاقة التصويرية التي ظهرت في المجموعة (قصة يقظة على سبيل التمثيل)، إضافة إلى التنويع الكبير في الموضوعات المتباينة، مع أنها لا تبتعد كثيرا عن مدار العتمة العامة، كما يمكن أن نكتشف ذلك بالعودة إلى العنوان والعتبات، ومنها مقولة صمويل بيكيت. وهذه اللغة الجميلة التي كتبت بها الحكايات؟ حائك العتمة قصص قصيرة جدا تستحق اهتماما خاصا لأنها أفلحت حيث فشلنا أحيانا، ولأنها جهد على أصعدة كثيرة، من حيث الأسلوب والبناء والخيال والموضوعات والفضاءات والأخيلة. هنيئا لنا هذه المجموعة، وهنيئا للمكتبة العربية هذه القيمة التي لا تتوفر في سوق الرثاث السردي.