إنّ محنة الرواية ورواية المحنة واقع فني تعيشه الرواية العربية من خلال راهنها ومن خلال استشرافها للمستقبل حتى تستمر في الوجود، ولعل التحدي الكبير للرواية العربية هو أنها من جهة عليها أن تمارس التجريب لتطور من آليات الكتابة الروائية لديها، ومن جهة أخرى تسعى إلى كتابة تجعل منها ديوان الحياة. ومن هاهنا فإن الرواية العربية كلما مرت بحركة مفصلية في وجودها تسعى إلى التجدد والتحول والتطور؛ من ذلك أنّ حرب 1967 وما ترتب عنها من هزيمة ونكبة أسهم بشكل قوي في تطور الكتابة الروائية التي خرجت من قوقعتها لتنهض من الوهم والسكينة، فقد تحول نجيب محفوظ تحولا كبيرا فكتب نصوصا روائية ارتقت بالرواية العربية إلى أفاق رحبة. * إنّ توصيف المحنة وُلد من رحم المعاناة في الجزائر، على سبيل المثال، مع العشرية السوداء وسنوات الإرهاب والتقتيل في نهاية القرن الماضي، وظهرت نصوص روائية ترصد هذا الواقع الجديد الذي هزّ عرش السكينة في الكتابة الروائية، ووجد الروائي نفسه أمام وضع جديد يحتاج إلى إعادة تكييف وتجديد انطلاقاً من هذه الخلخلة للوضع تمهيداً لنظام دولي جديد يعيد تشكيل العالم وفق رؤية جديدة للهيمنة والسيطرة. أنشأ هذا التحول الفني والجمالي جهازاً مفاهيمياً خاصاً به من ذلك الأدب الاستعجالي، أدب المحنة، أدب الأزمة؛ وفيه تصوير لواقع فني مرير سوداوي يعتصر الأزمة بكل تجلياتها؛ أزمة الإنسان وأزمة الكتابة وأزمة الأدب على العموم لما أصبح قتل الإنسان لأخيه الإنسان نشاطا يوميا ومتواصلا ومستمرا من دون وجل أو خوف أو محاسبة للضمير. وُجدّ في الواقع العربي وضع جديد بعد حرب الخليج الأولى والثانية، وترتب عن ذلك وضع مزلزل في العراق ثم في سورية، أدى ذلك إلى خلخلة في مفهوم الكتابة وعلاقتها بهذا الوضع الجديد. ومؤخرا طرح الكاتب الروائي نبيل سليمان مفهوما جديدا لهذا الواقع الجديد في الكتابة الروائية العربية وطرح مصطلح " رواية الزلزلة" وقف فيه عند القيم الجمالية والخصائص الفنية لكتابة وُلدت من رحم المعاناة الجديدة والمتجددة للعالم العربي. يمكن أن نقرأ هذه الرواية وفق هذا الطرح قراءة موضوعاتية ترتبط بهذا الواقع الذي ترصده، وفي الوقت ذاته يمكن أن نقدم قراءات أخرى من زوايا أخرى انطلاقا من مبدأ الخلخلة أوالزلزلة وتشرذم الذات وانشطار المفاهيم والقيم، والتي أثرت في الكتابة تأثيرا سلبيا ، حتى غذت بعض النصوص تسجيلا للأحداث واستعجالا في الكتابة، في حين ارتقت نصوص أخرى وسمت وهي تستلهم من الواقع المعيش واقعا فنيا باستثمار طاقة الخيال في رسم مشاهد تنشط فعالية التخييل لدى القارئ. يعدّ الكاتب والروائي الكبير نبيل سليمان من أنشط الكتّاب العرب إنْ على مستوى الطرح النظري وإنْ على مستوى الكتابة النقدية، وإنْ على مستوى الكتابة الروائية، وقد أسهم بشكل كبير في تزويد المكتبة العربية بمؤلفات تمثّل إضافةً نوعية وقيمة مضافة يجد فيها القارئ العربي ضالته، فهي تقدم البديل وتطرح الجديد في الرؤية والمعالجة والمعاينة. «ليل العالم"رواية لنبيل سليمان تقع في مائتين وعشرين صفحة، اشتملت على: كالمقدمات، وكالمتون، فصول من زمن الحنق، فصول من زمن العشق، فصول من زمن التيه، فصول من ربيع أبيض.. من ربيع أسود. «ليل العالم" عمل درامي يتتبع دخول الدولة الإسلامية إلى مدينة الرقة، ويرصد أهم التحولات التي أصابت المدينة وناسها كأنها مُسخت؛ فغاب عنها الفرح والمتعة والحرية الشخصية والحرية الفكرية والدينية، وتحول فيها المسيحي إلى ذمي، وارتقى فيها الأمي إلى درجة قاضٍ شرعي؛ الموت بيده والحياة بيده ورقاب الناس لا تساوي عنده قيمة بعوضة. «ليل العالم" رواية من روايات المحنة والمأساة في سورية جاءت لتدين الدولة الإسلامية بالجهل واللصوصية والانتهازية والأنانية، فتتبعت الرواية الكثير من الممارسات المشينة والقاهرة كالسجن والأسر والتعذيب والجلد والغصب والاغتصاب والقتل لأتفه الأسباب؛ عبر فرض مجموعة من القوانين تحت غطاء شرعي؛ فالأنترنت حرام والتصوير والقنوات الفضائية أيضا حرام، لتتحول الرقة إلى مجال للخنق بكل تجلياته في فصول من الحنق. ربطت الرواية بين ما وقع في الجزائر وما وقع في حلب وحماه وطرحت السؤال عن الفرق بين الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين في حماة وبين من يقاتلونهم في هذه الجبال ، كما قاتل آباؤهم فرنسا في الجبال نفسها، لتصل إلى نتيجة مهمة مفادها أن الإخوان المسلمين هم الإخوان، في سوريا في الجزائر في جزر الواق واق، لا فرق، ولا فرق بين المسلح وغير المسلح. غير المسلح اليوم هو المسلح غدا، وقد يكون اليوم غير المسلح بعد غد. أطرت الرواية رؤية فنية وقفت عند المسارات الإيديولوجية البعثية والاشتراكية والشيوعية والإسلامية، وركزت هذه الرواية على أن لا فرق بين الممارسات في زمن الدولة البعثية والدولة الإسلامية سواء ما تعلق بالجانب المخابراتي والأمني والتضييق على حرية المواطن وحراسة النوايا؛ فللدولة الإسلامية عيونها التي تخترق الجدران كما كان للدولة البعثية، ثم إن الدولة الإسلامية مثل الدولة البعثية تدرك الصمت وما أخفى.(الرواية:87) جاءت الرواية في قسمين مهمين وما يشيه الخاتمة، وإن كان الجزء الثاني سابق زمنيا الجزء الأول فقد جاء أولا من حيث ترتيب الأحداث، فكان القسم الأول للرواية للحديث عن سيطرة الدولة الإسلامية على الرقة، وعاد القسم الثاني لسرد مجموعة من الأحداث السابقة والتي كانت وراء ما حدث في الرقة خاصة وفي المنطقة العربية عموما. ناسبت اللغة السرد في هذه الرواية لما رصدت معجماً لغويا يقوم على الإدانة من جهة، وعلى التحليل ومحاولة التعليل والتفسير وكشف الأسباب والعلل؛ من قمع للحريات الفردية والسياسية نحو ليل متلوث بالدم كأنه يقطينة ملتوتة بالماء، كل هذا يبشر بغد مشرق فالقفص الذي يضم منيبا وموسى تخلعت قضبانه وتقطع وثاق أيدي وأرجل منيب وموسى بينما صوت يعلن هذا هو العرس الذي لا ينتهي في ليلة لا تنتهي. * وشحت الرواية بالأغاني في إطار ما يعرف بتداخل الأجناس وتراسل الفنون في الرواية، مما جعل الخطاب ينفتح على سياقات ثقافية متنوعة تجعل السرد خفيفا مؤثرا في حركية الأحداث وتنوعها. * ولما كاد الخوف من فقدها يوقعه في اليأس،أخذ يبحث عما يعينه عليهما، وبدأ بالألبومات المكدسة خلف زجاج الخزانة الأولى من المكتبة."(الرواية:83 ،84) شكّل حضور الأغنية في هذه الرواية حضورا لافتا، وخاصة في الجزء الثاني فصول من زمن العشق، وبذلك استطاعت هذه التوظيفات أن تجعل الأغنية خطابا سرديا جاء ليقوي من الحمولة الدلالية ويشحن النص بمدٍ عاطفي تعبيري يعكس المساحة الإيقاعية والتكثيفية لحركية الأحداث وتنوعها وتعددها وتباينها. * إن كثرة العناوين الجزئية وتعددها جعل هذا العمل يبدو وكأنه قطع بوزل يعكس تشتت الذات وانشطارها، ومن ثم تداخلت الرواية مع القصة القصيرة فاستفادت من تكثيف الحدث والاستثمار في التجريب اللغوي والمشهدية لمحاصرة الحدث والقبض عليه وللكشف عن بعض الجزئيات السردية المشكلة للحدث العام.