يعد كتاب: "الرؤية والبنية في روايات الطاهر وطار" للباحث الجزائري إدريس بوديبة، واحداً من أهم الدراسات التي أنجزت عن أدب الطاهر وطار الروائي، فهو مساهمة ثمينة في دراسة أدب الطاهر وطار الروائي،ومصدر هام لا يمكن أن يتجاوزه كل من يتصدى لدراسة أدب الطاهر وطار،حيث يقدم المؤلف دراسة جادة عن روايات الأديب الطاهر وطار،وهو يهدف من خلال هذه الدراسة إلى إبراز مختلف المظاهر المتعلقة بتحولات الرؤية الفكرية،والبنية الروائية،والكشف عن تطورها من نص إلى آخر من نصوص الطاهر وطار. وعن دراسته يقول المؤلف:" تعاملت في دراستي هذه،مع الشكل الروائي بوصفه بنية،تتضمّن رؤية متجادلة مع مرجعيتها الاجتماعية. وقد ساعدني على هذا أن الطاهر وطار ينتمي لصنف الأدباء القلائل،الذين لا يستقرّون على شكل روائيّ واحد،وقد حرصت في جميع الفصول،على تأكيد ظاهرة التحوّل الفني في الرّؤية والبنية،التي تحرّرت من هيمنة السرد التقليدي،لتنفتح على بنية السرد الحديث. وإن تطور الكتابة عند وطار لم يكن على مستوى الموضوعات فحسب،بل كان كذلك على مستوى الكتابة ذاتها. فقد طوّر أدواته،ولم يعد يقنع بالكتابة التي تقترب من الواقع وتكتفي برصد تحولاته الخارجية، فقد أصبحت الكتابة عنده تنطلق من داخل النص الروائي ذاته، لتلتحم بالذاكرة وعناصر الحلم والتاريخ،وسمح هذا البعد التجريبي الجديد للرواية،بامتلاك أدوات تعبيرية مغايرة،لقد كنت خلال هذه الدراسة أعود في كل مرة لأقوال الكاتب وتصريحاته الصحفية،وما أكثرها،لأدعم استنتاجاتي،وأنا أعلم أنه ينبغي عليّ أن أحذر من المطابقة بين مضمون العمل الروائي، وآراء الكاتب. لذلك فقد وظفت تلك التصريحات بشكل انتقائي، ولم أنسق وراء كل التصريحات المضلّلة،لأن الهوّة كثيراً ما تكون واسعة بين ما يقوله الكاتب في تصريحاته،وبين ما تتضمنه النصوص الإبداعية من مواقف، ورؤى، وأشكال. وفي الحقيقة إن ما قمت به في دراستي،هو محاولة للكشف عن بنية الشكل ومضمرات النص،وبهذا فإن الرواية الوطّارية، قد مرت بتحولات ظاهرة في رؤيتها وبنيتها،وذلك منذ البدايات الأولى التي كانت مفعمة بحرارة الواقع وحسّيته، انتهاءً بأعماله الأخيرة المنحازة إلى التجريد،والكتابة المركّبة التي تنحت عوالمها،عبر مكوّنات التّناص، والارتداد، والمثاقفة، والاشتغال على اللغة،التي لم تعد مجرّد استتباعات تطورية للنمط السابق،غير أن شيئاً واحداً لم يتغيّر في هذا المسار الروائي،فلقد ظل هاجس الموضوع السياسي يحتلّ فضاء هذه النصوص جميعها دون استثناء". قدم المؤلف لمحة تاريخية عن المسار التطوري الذي عرفه المشهد الثقافي في الجزائر،وذلك منذ أوائل القرن،وقد عرض من خلاله لمختلف التيارات الفكرية،والأحداث السياسية،وأكد على أن هذه الأحداث كان لها الفضل بشكل أو آخر في دفع الحركة الأدبية خطوات إلى الأمام،وتحدث عن الاستعمار الفرنسي وسياسته المنتهجة في سبيل تدمير وتخريب كل ما له صلة بما هو عربي بغرض فصل الجزائر عن الوطن العربي،ومسخ هوية الشعب الجزائري،وسلب أفكاره الإسلامية،ولم يكتف الاستدمار الفرنسي بتجريد الإنسان الجزائري من أرضه،بل عمل على إفساد الأفئدة والعقول،وهذا ما تجلى في إغلاق المساجد، وتحويلها إلى كنائس،وإغلاق المدارس التي كانت تعلم العربية،واستبدالها بمدارس فرنسية،وكذلك سعى إلى هدم الزوايا التي كانت تعمل على تثقيف الشباب، وغرس روح المقاومة في نفوسهم،ولذلك فلا نعجب في أن تكون الرواية المكتوبة بالفرنسية هي الأسبق في الظهور من الرواية العربية،لأن كل ما هو عربي كان مُحارباً، ومكبوتاً من قبل الاستعمار الفرنسي،وقد بدأ الشعور الوطني يستيقظ بعد بروز الحركة الوطنية على الساحة،ولاسيما بعد طرح المسألة الثقافية، والسعي من أجل تثبيت القيم الثقافية والحضارية للشعب الجزائري، وفي مقدمتها الإسلام، واللغة العربية،وقد تطور هذا الوعي بشكل كبير، واتسع مجاله بعد تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة:1931م،من قبل العلاّمة عبد الحميد بن باديس،ورفاقه،ومن هنا بدأت تظهر على الساحة اللغة العربية، وظهرت بعض الأعمال لمثقفين جزائريين باللغة العربية،كما أدت الصحافة الجزائرية دوراً عظيماً، وأيقظت الشعب الجزائري،وهكذا ظهرت أولى المشاريع الروائية المكتوبة باللغة العربية مع أحمد رضا حوحو الذي كتب:"غادة أم القرى" سنة:1947م، وكانت المحاولة الثانية مع عبد المجيد الشافعي في قصته المطولة:"الطالب المنكوب"،والتي ظهرت سنة:1951م بتونس. ويشير المؤلف إلى أن بداية السبعينيات هي المرحلة الفعلية التي عرفت قفزة حقيقية من الناحية الفنية في النصوص الروائية الجزائرية، ومن أهم الأعمال التي ظهرت: "ما لا تذروه الرياح" لمحمد عرعار،و"ريح الجنوب"لعبد الحميد بن هدوقة،و"اللاز" و"الزلزال" للطاهر وطار،وقد كان التحول الكبير مع الروائي الطاهر وطار،فمنذ أن ظهرت أعماله "بدأ النقاد في الجزائر والمشرق ينظرون بجدية إلى عناصر التفوق والتفرد التي طبعت أعمال هذا الروائي الجديد، ومنذئذ لم يعد الحديث عن الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية،ينطلق من موقف الشفقة أو الدعم التعاطفي-باعتبارها تجربة هشّة تحتاج إلى المؤازرة-ولكنها أصبحت تنتزع الإعجاب والتقدير،وغطت بهيمنتها على باقي الأجناس الأدبية في الجزائر، وانتزعت الصدارة في مجال البحوث النقدية، و التغطيات الصحفية والإعلامية، ولأول مرة أمكننا الحديث عن تجربة روائية جزائرية جديدة متقدمة،لأن السنوات العشر الأولى،التي أعقبت الاستقلال مكّنت الجزائريين من الانفتاح الحر على العربية المعاصرة،وجعلتهم يلجؤون إلى الكتابة الروائية للتعبير عن تضاريس الواقع بكل تفاصيله وتعقيداته،سواء أكان ذلك بالعودة إلى مرحلة الثورة المسلحة،أو الغوص في الحياة المعيشية الجديدة، التي بدأت تظهر ملامحها في التغيرات الجديدة التي طرأت على الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية".