الجاحظية كانت بيتي الأول في بداية تسعينيات القرن الماضي ..أكون هناك رغما عني في مقر هندسه لنا الروائي الراحل عمي الطاهر وطار ..كي لا نتشرد في شوارع العاصمة ..وإن كانت شوارعها زمنها أجمل مما نراه اليوم من نكوص يسد النفس ويحجمك على أن تستوي جميلا أو تحلم .. في وكر عمي الطاهر ..كما كان يسميه الراحل ..يحلو لك أن تعيش لغة الحياة وأن تعيش اللغة الحياتية.. تنسيك هموما وأوجاعا كنا نعيشها في ذلك الزمن .. زمن « البيتزيريا « التي استولت رغما عنا على بعض محلات المكتبات لتتحول إلى « الفاست فود « في عاصمة أراد لها الوزير شريف رحماني أن تنشد شعارا منافقا اسمه « شبيبة 2000 « .. كان العنوان الذي يصنع الحدث بعد أحداث ما بعد الخامس من أكتوبر حينما سيطرت حصص « بلاد ميوزيك « وصحف صفراء بانورامية تصنع المشهد شطحات هنا وهنا حجمت وقوضت من الفعل الإبداعي وذهب صيت المسرح الجزائري ومعه السينما الجزائرية..سقطنا رغما عنا في أفكار معلبة.. تماما مثل إنتشار « الساندويتش» في كل أحياء العاصمة ..كنا نقول هذا هو فعل الانفتاح وانحصار الفكر في محطات كلها ابتعاد عن جادة الصواب واستيلاء الهجين و الصحافة الصفراء التي انتعشت .. في الجهة المقابلة كان عمي الطاهر وطار رحمة الله عليه يصنع الحدث لوحده.. يعي جيدا أنه لابد أن يعيد القطار الى سكة وأن يصنع الحدث الثقافي ويكون الممون الرئيسي لكل وهج يصنع الجديد والمتجدد ..كان يصنع المعنى الثقافي بنفسه ..على صلة جادة بكل ما ينعش من أسهم الثقافة والإبداع وحتى النغمة والموسيقى والمسرح والنشر الثقافي ..أفلح نعم.. في تثوير ما بداخله من تخمين ورسم للناس توليفة أخرى في أنه ليس ذلك الكاتب الثائر الذي يمقت البرجوازية ويقتات من المفاهيم التقدمية ..بل هو ذلك الحلم الذي يراود كل كاتب ومبدع وحالم ..كيف لا وهو من كان على صلة بكل أطياف مجتمع الكتاب هناك ..كان المقر الرئيسي الذي نحج إليه ونصنع الفرح ..كيف لا وجمعية ترى فيها و على مدى 24 ساعة كتابا وشعراء ودكاترة وباحثين يحجون عمي الطاهر وطار يوشحهم بكأس من الشاي أولا ثم بثقافة تصنعها جمعية بسيطة نابعة من قانون عام 1990 الخاص بالجمعيات وليس مؤسسة ثقافية من تخمين المؤسسات الرسمية ..عمي الطاهر كان دولة لوحده ..في مقر كنا نرى فيه ما يسمى « هيئة أركان الثقافية تعيش حالة تأهب قصوي « ..كيف لا ينجح الفعل الثقافي وأنت تراه يملك جيشا من أسماء اعتبارية ..تزوره وتحج إليه في كل لحظة..الى هناك فية شارع رضا حوحو.. تؤدي البيعة لكبير هناك ..يحاول وحده رسم معالم رؤية ثقافية بعيدا عن الثقافة التي لم تفلح فيها يوما المؤسسة الثقافية الرسمية .. في رواق الجاحظية عشنا نسقا يعبر عنه شعار هذا الراحل الذي أفلح في سن تقليد بعنوان.. يحمل تأشيرة جامعة لكل فكر يراد له أن يجمع كل القناعات والحساسيات ..شعار كان يغريني كثيرا أعيد قراءته وتثوير ما بداخله من دلالات لأجد عمي الطاهر وطار واحدا من كبار المفكرين في العالم العربي بعد أن أفلح يوما في أن يكون أكبر الروائيين العرب ..كتب شعارا يحمل نعمة وخلاصا لذوبان كل فكر يحمل في داخله سحت ورؤى نزقة.. أراد أن يقول لنا ..نحن هنا كلنا نحمل الفكر ترسمه محطات للإضافة بعيدا عن نسق أيديولوجي قد ينسف كل فكر يراد له أن يسود في الساحة الثقافية ..شعار علينا أن نعود إليه لنفكك شيفرته ونعيش وهجه الإبداعي الواعد . كتب عمي الطاهر وطار في رواق الجاحظية شعاره الجميل «لا إكراه في الرأي « وراح يعيد للمعنى معناه.. وعشنا في ذلك الفضاء لغة تصالح إبداعية شارك فيها كل الناس الذين ارتسمت واستوت أفكارهم إضافات جادة لجمعية الجاحظية ..كيف لا تسعد هناك وأنت على صلة يومية هناك حينما تجد هناك ومعك : السعيد بوطاجين ..وعلي ملاحي وبختي بن عودة ..ومخلوف بوكروح .وعبد العزيز غرمول ..وعبد العزيز بوباكير ..والبشير مفتي ..وعلال سنقوقة ..ونصيرة محمدي ..ومنيرة سعدة خلخال ..نجيب انزار ..عبد الحميد ايزة ..وفاطمة بن شعلال ..وسهيلة بورزق..جمال بلعربي وآخرون من مصاف كبير ..كيف لا تفرح حينما تجد عمي الطاهر ..جعل من جمعيته مزارا يحج إليه حتى من خارج العاصمة تجد يوسف وغليسي ..وعثمان لوصيف وادريس بوذيبة وجمال فوغالي ..ومشري بن خليفة والأخضر فلوس ..وعبد الكريم قذيفة ..وميلود خيزار وعيسى قارف وقلولي بن ساعد ..وآخرون ... أسماء كما نرى لا تستطيع حصرها في نسق جميل هندسه الطاهر وطار ..صنع لنا حكاية جميلة ولم يتوقف تفكيره عند هذا الحد.. بل صنع لنا مجمعا ثقافيا بأتم معنى الكلمة.. هناك تجد النادي وقاعة المحاضرات والمطبعة وقاعة المسرح وحتى تعليم الموسيقى دون أن ننسى رؤية عجيبة سيخلدها التاريخ الثقافي ..رؤية تحيل المولع والقارئ والمبدع على أن يسلك لغة تصالح مع كل الإبداعات...فإذا أردت أن تكتب في رواق الكتابات النقدية والدراسات تجد أمامك مجلة التبيين التي تتخذ من الجاحظ خلاصة تخمين و قاعدة رؤى..أو كما قالها يوما في محاضرة له هناك ..فيلسوف النقد الراحل بختي بن عودة ..حينما قال إن الجاحظ كان أول خبير في علم الاتصال نستمد منه في مجلة التبيين منهجية ناجعة لتصوير لغة التواصل الإعلامية ..تجد أيضا أمامك مجلة « القصيدة « مجلة واعدة و التي كانت تحيل القائمين عليها على اختيار نماذج شعرية لكبار شعراء الجزائر ..تجد أيضا مجلة « القصة» التي أرادها عمي الطاهر وطار نهجا إبداعيا يراد له أن يكون نهجا جديدا في النشر الأدبي حينما رأى الصحف والدوريات تقمع المبدعين ولا تنشر لهم إبداعاتهم.. كان يريد أن يسن نهجا جديدا أفلح فيه.. ليقول عنه يوما الحالمون .. وجدت في الجاحظية كي أسعد كل الذين يحترفون ويؤرقهم الهاجس كي يعيشوا لغة تصالح مع ذواتهم التي أحجمت صحف على تبنى نشر ما يعايشونه من هاجس إبداعي فيه تلك اللغة التصالحية مع كتاباتهم ..وهذا ما جعل عمي الطاهر وطار ينشىء مطبعة بجانب مكتبه تكاد تكون أول منهج جاد في عالم النشر حينما قرأنا للكثيرين من عمار بلحسن إلى مخلوف بوكروح و بن يوسف جديد وآخرون .. كان لي أن أعيش كل هذا المعنى في رواق الجاحظية وكان لي عام 1994..أن أسلك عبر تواجدي في الشروق الثقافي أن أعيش المعنى عبر نادي الجاحظية ..فهناك تجد الرسام والنحات والروائي والشاعر والناقد كي تحاوره وتكتب في زوايا الملحق الثقافي ..تكتب وكلك فرح في أنك وجدت صيدا مهما يحيلك على أن تحاوره وترصده وتعيش معناه .. أتذكر أنني حاورت النحات الرسام محمد بوكرش ربي يشفيه في رواق الجاحظية ..والتقيت الخطاط العالمي السوري الشهير منير الشعراني في رواق الجاحظية أيضا ..وكتبت في الشاعر الجميل عمار مرياش حوارا بقى يرصد تفاصيلي معه ومع الكتابة الثقافية التي وجدت في الجاحظية المكان الذي يبعدك عن تلوث الواقع ونكوصه ..هناك في الجاحظية يرسم لك المكان والكينونة كي تعيش هاجس الكتابة وترسم وتهندس مقالاتك الصحفية .. نعم كان للجاحظية وعمي الطاهر وطار أن ارتسمت لدينا رؤية أن نعيش الكتابة الثقافية ونحاول أن نلامس ما كان يشكل عندنا هاجسا للوصول إلى أن يكون الركن الثقافي بوابة نعيد من خلالها الأمل للصفحة الثقافية ونعيش ولما لا.. لعهد اسمه الملاحق الثقافية حينما عشنا زخمها زمانا مع « الشعب الثقافي «الذي واكبناه في زمن السبعينات ثم أفلح الروائي عبد العزيز غرمول في هندسة « الخبر الثقافي» وأفلح في انطلاقته الواعدة ..وإرتسمت في الضفة الأخرى تفكير آخر جاد ..حينما عشنا محطات ملحق « الشروق الثقافي» عبر رؤساء التحرير: الراحل الشاعر عياش يحياوي والصغير سلام وبعدهما عبد العالي رزاقي وعبد العزيز بوباكير ..كنت ضمن هذه الهيئة كنت أعيش هوسا وأغوص في المعنى وأعيش لمستي في الكتابة الثقافية وأحاول الغوص في نهج فنيات التحرير حينما تعلمناها يوما من الأساتذة الكبار : أديب خضور و عزت عجان وعبد الرحمان عزي ..وآخرون ..أتذكر جيدا حينما كنت أحاور الخطاط السوري الشهير منير الشعراوي من عائلة آل الديراني بالشام ..جاء إلينا وكنا في نادي الجاحظية ..جاءنا عمي الطاهر وطار ..قال لي : أنت المهدي ضربان ..؟ ..قلت بخوف: نعم ..قال لي : « أنا أقرأ لك..سي مهدي .. « ..لم أعش نشوة فرح وإنتصار وسعادة في حياتي مثل تلك اللحظة الجميلة وأضاف :» شوف سي مهدي كتاباتك جميلة ..عليك أن تتجه اتجاها أدبيا لترسم مسارا محددا لك في الكتابة ..» ..نعم فرحت وسعدت من تلك اللحظة حتى أن الخطاط السوري أرغمه الموقف على إحترمتي حينما أحالته كلمات الكبير الروائي طاهر وطار أن يعيش معي زخما فيه هذا الذي يجعل من الحوار تحفة ومتعة وإضافات..وفعلا عشت على وقع تلك الكلمات التاريخية ..أن يقول فيك الطاهر وطار أنه يقرأ لك ..ومن يومها قلت في داخلي: ضروري أن أكتب وأعيش لذة الغوص في نهج تصالحي مع الذات يحيلك على أن تكون أنت أنت بدون خوف أو رتوشات .. كان إذن عهد ومرحلة عمي الطاهر وطار عبر رواق الجاحظية وعبر مقولته في وكره الخالد..» لا إكراه في الرأي» أن تعيش زخما جميلا يرسم لك مواصلة المسيرة والسعي لكي تعيش إنصهارا ثقافيا جادا يبقى المنهج الذي يحلم به كل من لهم علاقة بالإعلام الثقافي ..تساؤل بسيط نطرحه في هذا السياق ..أين هي منشورات الجاحظية الآن ..أين هي منشورات.. القصة.. والقصيدة.. والتبيين.. ومطبعة الجاحظية والجائزة المغاربية للشعر ..وأين هو نادي الجاحظية.. وأين هي فرق المسرح ..مسرح بيغماليون للجميلة دانيا ..وأين هو عمار مرباش ...المتواجد دوما هناك ...وأين هم من كنا نعيش حراكهم في شارع رضا حوحو ..وأين هي الجاحظية نفسها التي زرتها هذا الصيف لأجد نفسي باكيا ..كانت مثل الأطلال كانت ترسم بؤسا وقحطا يحيلك على القرف ..خرجت من مقرها وكلي إنهزامية من واقع يبدو أن عمي الطاهر وطار لوحده قادر على أن يحيله على إضافات وعلى جديد وعلى معان واعدة . لم يخطئ عمي الطاهر وطار رحمة الله عليه ..حينما قال لي يوما ..» المثقف في الجزائر هو إما شهيد أو طحان «.. رحمة الله عليك الروائي العالمي الطاهر وطار ..