تُعتبر آسيا جبار من أهم الروائيين في العالم من خلال أعمالها الروائية الكثيرة التي شكلت مسارا روائيا لا يمكن إنكاره. بدأت مسيرة فاطمة الزهراء ايمالايان،وهو الاسم الأصلي لآسيا جبار،أثناء الثورة التحريرية الجزائرية بروايتها "العطش" لتستمر حتى آخر أعمالها. علاقة آسيا جبار بالسينما لم تأت فجأة أو من خلال فيلمها "نوبة نساء جبل شنوه"،بل هي علاقة وطيدة استطاعت من خلالها أن تعبر كما استطاعت عن طريق الصورة أن تنقل للمشاهد أكثر المَشاهد المعقدة. عرفت آسيا جبار كروائية،لكن علاقتها وطيدة بعالم السينما المعتمد على الصورة. تقول عن هذه العلاقة: "قمت بتدريس مقياس حول السينما والمسرح بكلية الجزائر. ولكن قبل هذا كانت لي علاقة أكثر واقعية مع الجمهور لأنني لمدة ثلاث سنوات قمت بباريس بإخراج أعمال للمسرح. وقبله أيضا كتبت مسرحية "الفجر الدامي" (Rouge L'aube)،التي أخرجها مصطفى كاتب. هذه المسرحية كتبت لتمثل على الحدود أثناء حرب التحرير". هذا الاتصال بالسينما والمسرح كتابة وتدريسا،فتح أمامها فرصة الوصول إلى الإخراج. لقد انتقلت جبار من الأدب إلى السينما. وتقول عن تجربتها: "لفترة طويلة، بالنسبة لي،السينما لم يكن معترفا بها كشكل فني لأنها لا توصل الشعور بالزمن (...) كما تفعل بعض أنواع الكتب أو الموسيقى المنتجة في زمن محدد. ترى كل شيء يتحرك أمامك وأنت فيه. لست أبدا في الجمهور (...) في السينما هذا ما أريد توظيفه". إن السينما ومن خلال قدراتها،تذهب أبعد من الكتاب،إذ تمنح للسينمائي جمهورا أوسع. لكن "الرسالة المضاعفة بألف،لا تهمني أبدا".هكذا تقول آسيا جبار رغم أن كل المهتمين بهذا الحقل يؤكدون أن السينمائي ومن خلال الفيلم،بإمكانه إيصال رسالته إلى أكبر شريحة ممكنة من المجتمع. ولعل هذا ما جعل الفرق واضحا بين السينما والأدب،حسب جبار،إذ ترى أن "الأمر مختلف (...) السينما لن تكون أبدا مزادا بسيطا،شخصيات متضادة أو حبكة.لأجل هذا أقول إن الأدب يعطيك حرية أكثر،تكون في الوقت ذاته أكثر فردية وأكثر جماعيا. الرواية،الأدب تسمح لك بأن تتعمق أكثر. السينما تسمح لك باقتحام ميادين أخرى". اختلاف السينما عن الأدب لا يعني ذلك انفصالها عنه. إنهما فنان يكادان يكونان متلازمين. والسينمائي حين يشرع في تصوير فيلمه لا يعني ذلك أنه انفصل نهائيا عن الأدب،عن الكلمة. أما آسيا جبار،كأديبة وسينمائية،فإنها وهي تعمل على فيلم "نوبة نساء جبل شنوه" تقول: "بهذا الفيلم أيضا أقوم بالأدب،أمر من الأدب المكتوب إلى الأدب الشفوي. أؤكد دورا للتوصيل.في بداية هذا المشروع بدأت بالاستماع لحكايات النساء. قمت بهذا العمل في منطقتي الأصلية (جبل شنوه).لقد قُبلت من طرفهن، ليس لأني كاتبة، ولكن لا،لي روابط بوسطهن. وأنا أستمع، كانت هناك صور تتشكل في خيالي شيئا فشيئا والفيلم يتشكل أيضا". وهكذا فإن جبار قد استلهمت كل هذه الأحاديث لتتخذ منها جانبا وثائقيا في فيلمها "نوبة نساء جبل شنوه". كتبت جبار"نوبة نساء جبل شنوه" عام 1957 وحولته إلى فيلم عام 1978. ويعتبر هذا الفيلم أول أعمالها السينمائية. لفت انتباه النقاد الأجانب والعرب بصورة كبيرة". اعتماد الكاتبة على طريقة العودة إلى الوراء يقوم النص على أحداث عديدة تتأرجح بين الحقيقة والخيال:"وفيه تصور جبار جانبا من حرب التحرير الجزائرية ودور المرأة الجزائرية في هذه الحرب. وهو مزيج م الروائي والتسجيلي،ويسير في اتجاه تجريبي وجمالي متميز". تعود ليلى المهندسة الجزائرية لتغوص في الماضي وتنخرط في أوساط النسوة العجائز وحتى الشابات. تعود رفقة زوجها الذي يجلس على كرسي متحرك اثر حادث حصان وقع من عليه. تعود إلى حيها الأول ومنطقتها المسماة "شرشال"،إذ يقف جبل شنوه محاذيا البحر حيث سواحل مدينة تيبازة. تعود ليلى لتبحث عن أخيها الذي اختفى أثناء حرب التحرير. فتنتقل من امرأة إلى أخرى، ومن هذا إلى ذاك.ومن خلال تنقلاتها، تعتمد الكاتبة على طريقة العودة إلى الوراء (flash back)التي تعتمدها في رواياتها الأخرى، لتسجل بعض أحداث حرب التحرير حيث الثوار والذاكرة الشعبية التي ظلت تختزل تلك الصور. يُظهر النص علاقة الزوجين،ليلى وعلي،المنقطعة تماما فهما لا يتبادلان أي حوار. يظهر الزوج الصامت، وتظهر الزوجة على العكس منه،إذ تقود سيارتها وتتجول في كل الأمكنة. تعود ليلى إلى وطنها وإلى مسقط رأسها لتسمع صوت الذاكرة،الذي يعيدها إلى الثورة التحريرية،إلى نساء بلدتها وإلى طفولتها. تنتهي ليلى باستعادتها لا لأخيها،بل لذاكرة جماعية حيث تجد هويتها الضائعة والتي تكفلت نسوة جبل شنوه بإعادتها وصياغتها من خلال الالتصاق بالماضي والمحافظة عليه،ومن خلال اللغة العربية، حيث تقول الكاتبة في هذا:"عملي في السينما هو مظهر من الإبداع مع اللغة العربية، اللغة الحية، اللغة الشاسعة. بفضل الصور أخرجت اللغة من فضائها القديم المغلق. لقائي بلغة طفولتي حيث أنجزنا الفيلم". تحول هذا النص إلى فيلم عام 1978 على يد الكاتبة نفسها بعد أن عملت بالحقل السينمائي فكان عملاها "الزردة" و"نوبة نساء جبل شنوه"،الذي كان ثمرة تعاون بين النص النسوي والسينما. وعلى الرغم من هذه العلاقة الشائكة بين الرواية والفيلم التي لم تحسم لصالح أي منهما، فقد ظلت الرواية رافدا هاما للسينما. لكن تبقى الخصوصية إذا تعلق الأمر بنص لامرأة وتخرجه امرأة أيضا. إن علاقة الرواية بالسينما، ما زالت تطرح إشكالات عديدة،تتعلق بالجانبين الفني والتقني كذلك. وكما يؤكد لوي دي جانيتي، فإن التساؤلات صارت تطرح حول "الكلمة المكتوبة والكاميرا، وحول الأدب والمعادل السينمائي، مما أدى إلى ظهور مصطلحات جديدة كالإعداد غير المشدود والأمين والإعداد الحرفي". وكل هذه التساؤلات لم تبتعد عن اقتباس السينما من الرواية. وآسيا جبار لم تبتعد عن هذه العلاقة، فقد كتبت سيناريو نصها وحولته إلى فيلم، اعتمدت فيه على جانب وثائقي وجانب خيالي.ومن خلال عودة ليلى إلى وطنها،تعود إلى أحداث الثورة والماضي الزاخر بالعادات والفلكلور الذي يتجدد بنوبة النساء في مغارة الجبل. يُقدم الفيلم على نسق دائري،وهو نسق ينطلق من نقطة نهاية الأحداث ثم يرتد إلى الماضي من خلال الاعتماد على تقنية العودة إلى الوراء (flash back). ويقوم الفيلم على مقاطع ستة وضعتها الكاتبة من خلال السيناريو. يبدأ المقطع الأول بمقدمة (جينيريك) يردد: (O toi qui en passant. Regarde ou rêve) "أوه. أنت أيها المار، أنظر إلى الحلم ..." (Donne de toi même l'illusion de la réalité") "أعطي من نفسك لوهم الواقع" وفي المقطع الثاني يُقدم الزوجان،وهنا تردد ليلى : ("Oh.je revient enfin chez moi") "أوه. أخيرا عدت إلى حيث أنا". وفي المقطع الثالث تظهر الوجوه والطبيعة. تظهر العجائز والفتيات الصغيرات ويُسمع صوت ليلى: (je le :chercherai) "سأبحث عنه". والفيلم يطرح الكيفية التي تجعلنا نقرأ التاريخ من خلال الصورة والصوت. وهذه القراءة وضحتها الروائية من جانبين: الأول أن الفيلم يعالج مرحلة بين 1954 و1962،أي فترة حرب التحرير،فتقدم ذلك من خلال شهود عن المرحلة. وهنا يتجلى الجانب الوثائقي في الفيلم. والجانب الثاني يتعلق بالأحداث التاريخية البعيدة حيث تستعين هنا بصور تظهر التاريخ الجماعي كمشهد يجمع الجدات والأطفال يروين لهم هذا التاريخ.تؤكد آسيا جبار وهي تتحدث عن فيلمها هذا: "فيلمي ليس صعبا. ما أطلبه من الجمهور هو قليل من الجهد". يعود هذا الفيلم إلى ذاكرة الجزائر الجماعية ليعيد رسم الماضي من خلال حديث النسوة/العجائز عن حرب التحرير.والفيلم حسب مخرجته: "يتعلق الأمر بفيلم بحث على مستويات متعددة. أولا على مستوى الفضاء:إظهار الاختلاف الموجود بين الفضاء النسوي-الداخلي،والفضاء الذكوري الخارجي في مجتمعنا.وأيضا على مستوى اللغة،وظفت العربية الدارجة". لقد اهتمت جبار بالمرأة فكانت مادتها الأساسية،وهي ليست مادة جامدة،بل من خلالها تطرح الكاتبة/السينمائية أفكارها ومنه فإن: "آسيا جبار قد أدخلت النساء التاريخ". هذا التاريخ الذي ظلت ذاكرة النسوة في جبل شنوه تحفظه.وعن هؤلاء النسوة تقول جبار:"لا يتعلق الأمر تحديدا بتثمين المرأة،ولكن ببساطة بالنظر والاستماع للنساء،النظر إليهن في حاضرهن،فيما يقمن به اليوم".هذا الاهتمام بالمرأة أتاح لها الاقتراب منها أكثر في الفيلم بعد الروايات العديدة التي لم تخل من الحديث عن المرأة. تحويل النص من الكلمة إلى الصورة بحثت المخرجة في التراث الجزائري،واستلهمت التراث الموسيقي من خلال مقاطع موسيقية ل بلة برتوك،الذي عاش بمنطقة بسكرةعام1913. وكان هذا من خلال توظيف المخرجة لمصطلح "النوبة" التي تعود إلى عهد العباسيين، وهي تلك المقاطع الموسيقية المتناوبة: "في الخارج،ومن النافذة، الصباح المشمس. إنه الحاضر الذي يمر بين جمع الموسيقيين. إنها الموسيقى، رقصة الأجساد على حافة المتوسط".وليس بعيدا عن هذا الجو تظهر المغارة العجيبة في عمق الجبل المطل على البحر حيث تجتمع النسوة ليرقصن على نوبات موسيقية مرفقة بضربات البندير (الدف). إنه الفرح:"فرح النساء فيما بينهن".إن المغارة في الفيلم بمثابة مساحة من الحرية متاحة للنساء وخاصة للعجائز لإيقاظ الذاكرة ومحاولة الإمساك بأحداث التاريخ.كما أن الجبال وخاصة جبل شنوه تبرز كشاهد على ذاك التاريخ، ففي هذه الجبال كانت المعارك تدور بين المجاهدين والعدو،وهناك اختفى ذاك الأخ الذي عادت ليلى للبحث عنه هنا.النوبة لعبت دورا في الفيلم،كموسيقى عرفتها جل سواحل المتوسط، وقد أضفت على حركات النسوة في المغارة جوا ساحرا،خاصة وأنها تتراوح بين حركات سريعة وأخرى بطيئة. وقد امتزجت أصوات النسوة بمقاطع موسيقية للفنان بلة برتوك،مقاطع في مجملها فلكلورية. وهنا تقول آسيا جبار:"اعتقدت أنه بإمكاني إنجاز فيلم كقطعة موسيقية.تذكرت النوبة الأندلسية القائمة على حركات مختلفة".لقد قدمت المخرجة النسوة في أكثر من مشهد من خلال عرض النوبة ممتزجة بصوت المياه.إنها الذاكرة الممتزجة بالتاريخ المتماوج بين الحقيقة والخيال. إنها الهوية التي تفتش عنها ليلى،وتظهر من خلالها في نهاية الفيلم الذي دام تسعين دقيقة. ويرتفع الصوت بالغناء مرفقا بالرقص والدق على البندير. إنها الحرية التي تنشدها آسيا جبار من خلال جل أعمالها. إنها الحرية التي تريدها للمرأة الجزائرية لتخرج إلى الضوء دون تنكر ودون خوف.إن تحويل هذا النص من الكلمة إلى الصورة كان نتيجة اهتمام الكاتبة بمجال السينما أو بالصورة عموما. إضافة إلى أن نجاح العمل يعود ليس فقط لنجاح النص المكتوب، بل وأيضا للإخراج،وخاصة إذا كان كاتب النص هو في الوقت نفسه مخرج الفيلم،كما هو في حال "نوبة نساء جبل شنوه".ومكن آسيا جبار من فرض وجودها في السينما إضافة إلى شهرتها كروائية.