في وهران الجميلة كل شيء يمضي بسرعة، لوهران سلطان المرأة العاشقة والمعشوقة ، تهزك حيث لا تنتظرها إلا قليلا، الرحلة بدأت برسالة لصديق وانتهت بحوار في الجمهورية، أجوب شوارع وهران رفقة القاص والاجتماعي، الصديق عمار بلحسن، أو كما يسمى في تليوين اعمر، مررنا على بريد المدينة ، كنا مزلوطين قليلا، بلا نقود، قال عمار وهو يتمتم في أذني بطوله الفارع، مخافة أن يسمعه أحد المارة : ما رأيك لو نسرق البريد المركزي كما فعل قادتنا الذين سبقونا، بن بلة وآيت أحمد وحمو بوتليليس، حينما سرقوا بريد وهران، ونشتري كل ما نشتهي من كتب؟ فكرة. لمَ لا؟ أجبته مازحا، فجأة وجدتني في صلب الهجوم المسلح على بريد هران، في 4 أفريل 1949 التي قام بها حسين آيت أحمد وأحمد بن بلة وحمو بوتليليس ، كوّنوا مجموعة صغيرة من أعضاء المنظمة السرية OS اختطفت الطبيب الفرنسي " بيار موتيي " من الحيّ الأوربي بوهران، بعد التأكيد له بوجود مريض في حالة إستعجالية ، بغرض الإستيلاء على سيارته سيتروين، التي استعملت في الصباح الموالي لتنفيذ عملية الهجوم المسلح على مقر البريد المركزي. ركن المنفذون الثلاثة، السيارة التي كانت تحمل بزجاجها الأمامي شعار الطبيب، مما جعلها في منأى عن الشكوك، قريبا من البريد ، نزلوا بهدوء، كانوا يرتدون ألبسة أوروبية أنيقة ، توجهوا مباشرة إلى مقر البريد ليشهروا بعدها أسلحتهم ويستولون على مبلغ مالي لم يكن كبيرا، وهرولوا مسرعين إلى السيارة المسروقة قبل أن يختفوا نهائيا عن الأنظار، سلموا الغنيمة إلى " محمد خيدر" الذي نقلها إلى العاصمة في سيارته. ، غنيمة لم تكن كبيرة، لكنها مكنتهم من اقتناء مابين 600 و700 قطعة سلاح من ليبيا للتحضير لمعركة التحرير، قبل أن يوقظني عمار من غفوتي ونحن نتوغل في عمق البريد المركزي : عندي رسالة في البريد الدائم Poste retante. استلم عمار رسالته ، قلبها ، فجأة ارتسمت على وجهه ابتسامة طفل ، قلبها على كل الأوجه ، هذه من عند الروائي الكبير عبد الرحمن الربيعي ،عندما فتحها وجد بها رواية الأنهار ومجموعته القصصية التي طبعت في وزارة الثقافة العراقية ، كان سعيدا وهو يقلب مجموعته حرائق البحر بين يديه، الأرض لم تكن لتسعه ، شم ورقها ، تنفسها ، لم يكن ذلك إلا تجسيدا لتفوقه القصصي على أبناء جيله ، كم يكون سعيدا في تلك الأيام، من يطبع كتابا ، كانت السعادة مزدوجة ،عندما مررنا عند المكتبي استلمت مجلة الأقلام والموقف الأدبي اللتين كانتا تحتويان على قصتين لي، الأولى وشم الخيانة في زمن العناكب، والثانية الحلم بالإسفلت في حضرة الوطن الهارب. أن تشعر باعتراف يأتيك من الخارج، من حاضرتين ثقافيتين عربيتين كبيرتين: بغداد ودمشق، فهو أكثر من ضرورة لتتأكد من أنك في الطريق السليم في الكتابة. مدهش أن تجد قصتك مصفوفة بجانب قصص، حيدر حيدر، حنا مينة، زكرياء تامر، عبد الله أبو هيف، هاني الراهب، حسن يوسف، وأحمد يوسف داود وغيرهم ، العلاقة مع هذه الأشياء تغيرت اليوم كثيرا ، أصبح عاديا وربما أفضل ، النشر في السبعينيات كان في حد ذاته قيمة ، رائحة الحبر وورق المجلة أو الكتاب، تبقى ماثلة في الأنف، تذكرك في كل مرة بأنك تخطيت عتبات أرضك وأنك أصبحت في مجرة أجمل ، كنت قد نشرتُ قصصا قصيرة كثيرة، في الشعب، والجمهورية، والمجاهد، والثقافة، وآمال، وغيرها، وحصلت على جائزة القصة في مسابقة وزارة التعليم العالي التي كان الطاهر وطار أحد أعضاء لجنة التحكيم فيها، لكن هذا كله لم يكن كافيا ، سألت عمار الذي كان يكبرني بسنة، ويدرس علم الاجتماع بجامعة وهران: كيف تحس يا عمار وأنت تقلب كتابك وتشم رائحته وتكاد لا تصدق أن صاحب الكتاب هو أنت؟ ، صمت ، ثم قال بلغة امسيردية تشبه لغة ناس تليوين: آودي يا خاي راني مفكوع بالفرحة ،ضحكنا طويلا ونحن نعبر شارع أرزو (العربي بن مهيدي) قبل أن نقطع الطريق باتجاه نزل تيمقاد ومنه إلى نهج حميدة، حيث جريدة الجمهورية لإجراء حوار مع عمار بلحسن، حول هذا الحدث اللطيف، جلسنا في قاعة التحرير، كان عمار منتشيا، سألته بماذا يحس ؟ ، قال: أنا اليوم تأكدت بأن لي مكانا في الأدب العربي كبقية أترابي ، صحيح حصلت على جائزة وزارة الثقافة عن قصة البحر، لكن أن تنشر خارج أرضك، وفي وزارة ثقافة بلد شقيق معروف بميراثه وتاريخه وعراقته، هذا يعني أنك تملك شيئا من العربية يمكن أن تباهي به أنت أيضا وتغير صورة أن الجزائر فرانكفونية فقط، وتصطف بجانب رضا حوحو وابن هدوقة والطاهر وطار، أنا أشكر صاحب الرواية العظيمة الأنهار عبد الرحمن الربيعي الذي تنبه للكثير من المواهب العربية، وساعدها بشكل مباشر أو غير مباشر ، كنا نتبادل رواياته ومجموعاته القصصية ،قرأنا له مجموعتي السيف والسفينة والظل في الرأس، وراويات الوشم، والوكر، والأنهار، والقمر والأسوار. النشر عندنا شديد القسوة مثل حياتنا اليومية التي هي انتظار في انتظار ، أينما وليت وجهك فثمة من ينتظرون غودو ، عليك أن تصبر من ثلاث إلى عشرين سنة أو أكثر، وعليك تربي الأمل في أن تُنشر يوما ما. أنا أنشر في العراق، قال عمار، وأنت في سوريا، المسالك لم تعد مغلقة، لأننا فكرنا بمنطق الهجرة الأدبية، يجب أن نؤمن بهذا يا صديقي، نحن الذين نكتب باللغة العربية يتامى ..يتامى حتى العظم، أكملت جملته، لا أحد يساعدنا إلا جهدنا الخاص وإيماننا ، نحاول ولا ننتظر، لم يكن عمار يومها مخطئا ، كل كتابنا المعروفين اضطروا إلى الهجرة الأدبية، رضا حوحو، وابن هدوقة ووطار إلى تونس، خمار وسعد الله إلى بيروت ودمشق، والركيبي إلى القاهرة، وعبد الملك مرتاض إلى المغرب، وهكذا، هناك مساحة يجب أن نتنبه لها ، هي المساحة العربية التي تتسع كثيرا عندما تضيق البلاد التي نمنحها كل شيء، وكثيرا ما تخذلنا، وتستكثر فينا قليلا من الحب والتقدير ، عمار، أهم قاص جزائري في زمانه، رحل مبكرا تاركا وراءه الكثير من النكت الساخرة من الحياة، ومجموعات قصصية مهمة، وأرشيفا تلفزيونيا مهما عن حصته كاتب وكتاب، وكما من المقالات الاجتماعية التي نشرها في الصفحة التي كان يديرها مع صديقه حمزة الزاوي، وقبرا منسيا بدأت علاماته تحول وكتابات شاهدته تمّحي، والنباتات الضارة تغطيه.