لم تعرف الثقافة الجزائرية منذ تأسيسها الأول نُقادا كبارا أطبقت شهرتهم وأعمالهم مساحة تداول كبرى خارج الحدود على شاكلة ما عرفناهم من أسماء نقدية في المشرق والمغرب، وإن عرفت كتابا مارسوا الدراسات النقدية، وقدموا بحوثا تأسيسية في هذا الحقل المعرفي على شاكلة عبد الله ركيبي ومحمد ناصر وعبد المالك مرتاض ومحمد أمصايف..الخ ، وأغلب الظن أن كل ذلك ارتبط بالواقع الثقافي الجزائري الذي ظل خامدا جداً في السبعينيات، حيث كانت إيديولوجيا السلطة توجه الأدب والثقافة بشكل عام لغاية تهمها، وليس بالضرورة هي ما يهُم النقاد والكتاب، ولكن لم يكن من مندوحة للتمرد على تلك المنظومة في ذلك السياق الأحادي . أما في الثمانينيات فلقد تزعزعت أرض اليقين الصلبة واهتزت بمجرد أن رحل الرئيس هواري بومدين، ورحل معه حلم الجزائر الاشتراكية بفكرة حكم شمولي لا يقبل التعددية والاختلاف، أو يعتبرهما من تراث البرجوازية أو الامبريالية المتخلف، ومن الصعب بعد كل هذه العقود إجراء قراءة نقدية لتلك الفترة من الناحية الثقافية، ولعله من المؤسف أنه لم يتم الاهتمام بالنقد الثقافي وسوسيولوجيا النقد من بوابة جزائرية، فلا نزال نساير الموضات النقدية دون استغلالها لقراءة وجهنا الثقافي بمختلف ملامحه وزوايا منظوراته وحقبه المتعاقبة..وكل ما نطالعه في النقد الثقافي نجده مرتبطا بما كتبه فرانز فانون، إدوارد سعيد أو هومي بابا، أو سيماك، أو الغدامي، أو عبد الله إبراهيم، وهم منظرون كبار بالتأكيد ، لكن لا نعرف كيف نطبق الأدوات النقدية التي نحتويها في قراءة تجربتنا الثقافية وخطابنا الأدبي في سنوات التأسيس الأولى الستينيات والسبعينيات بخاصة، ثم ما تلاها من مراحل مهمة دون شك. إن الدراسات القليلة التي تقدم تكاد تكون استرجاعا واستذكارا وتبجيلا منقطع النظير لهؤلاء وليس فيها روح مغامرة نقدية تفتح الأبواب وتشرع النوافذ ، في الثمانينيات لم تذهب الغشاوة بسرعة عن ضرورة فضل الأدب عن المؤسسة الرسمية، والتي كانت تبتزه دائما بالقاعدة التي من خلالها يتواجد ويظهر كالإعلام والنشر، ولهذا بقي النقد مرتبطا بأفق الجامعة ودراساتها الأكاديمية أو بالملاحق الثقافية في الجرائد على قلتها، وهذا ما كان يغلب الوظيفة الإشهارية للنقد، أكثر من المتابعة النقدية التأسيسية، وسننتظر نهايات الثمانينيات حتى تتضح لنا بعض المعالم الجديدة، حيث عاد طلبة جزائريون من دراستهم بفرنسا خاصة وهؤلاء سيعملون على إدخال المناهج النقدية الفرنسية الجديدة، والتي كانت في الحقيقة تعرف نوعا من المراجعة والنقد ،حتى في موطنها الأصلي عندما وصلتنا نحن كفتح علمي جديد. وهنا يبرز الخلل الكبير في النقل السلبي، ولكن مع ذلك لا بد أن نشهد لهؤلاء ومن بينهم السعيد بوطاجين، حسين خمري، محمد ساري، رشيد بن مالك، عبد الحميد بورايو..الخ بأنهم حاولوا على الأقل أن ينقلوا الدراسات الجامعية من شكلها الكلاسيكي التقليدي إلى نوع من المقاربات التي ادّعت العلمية، أو حاولت أن توهم بعلمية القراءة الأدبية للأدب تحت تأثير مناهج اللسانيات التي دشنها فردينا ن دي سوير..، ( أنتظر من هؤلاء قراءة تجاربهم بعد مرور كل هذه السنوات) لن نتحدث عن التسعينيات لأنها كانت مرحلة ألم وعنف، وضاع فيها الخيط الذي يجعل النقد قادرا على الحضور بفعالية كبيرة، لكن بعد مرحلة العنف صار النقد عاجزا عن اللحاق بالنصوص التي كان فيما مضى يتم حصرها في بضعة أسماء قليلة، لقد حدث تراكم كبير في الإصدارات ما عاد الناقد بقادر على ربط حلقات الوصل والفصل بينها وبين من سبقها من نصوص، ووجد نفسه في حالة جفاء، عدم اكتراث، وعنف ضد كل ما يكتب، أو لم يعد يهمه أن يقرأ هذه الكتابات فهي بحسبه ادعائية وخارجة عن مشروعيته النقدية، وهو لا يملك أية سلطة على ظهورها، وإنتشارها، وبزوغها أو خمودها. ذلك أنه للأسباب التي ذكرنا لم يقم بدوره في السباق ولا يمكن أن يقوم بدوره المشروع في الحاضر. طبعا غياب منابر نقدية وأدبية وفكرية كان له دور في تحجيم الفعالية النقدية، بل هو السبب المباشر، لأن الناقد لا يكتب لنفسه كما قد يحدث مع الكاتب، الناقد بحاجة إلى منبر يطرح فيه عمله النقدي للنص الأدبي وعندما يغيب هذا المنبر يصعب عليه القيام بدوره إلا في حدود الجامعة إن كان جامعيا، أو المشاركة في الملتقيات إن تمت دعوته لها ، وهذا يعني ببساطة الإعلان عن موته المقسط، تأبين حضوره الفعلي ومشاركته في مسايرة النصوص الأدبية وتقديم قراءته المفتوحة على أسئلة الكتابة وتحولات الثقافة والواقع ، لهذا لا أحد يمكنه أن يحاكم الناقد اليوم في ظل إجحاف الغياب المبرمج له، وضعف القدرة على تغيير الواقع الثقافي المكتوب خاصة نحو صورة ديناميكية مفتوحة على التعدد والأسئلة وأصعب شيء اليوم أن نطالب الناقد أن يكون معنا وهو لا يجد الأرضية التي تسنده كي يقف ثابتا فوقها.