- هل الخبر صحيح يا أمين ..؟! بصوت بدا مرتفعا قليلا سألَت الطالبةُ "نظيرة" الطالب أمين الزاوي، فهو إلى جانب دراسته في الجامعة يقوم بالإشراف على القسم الثقافي بجريدة الجمهورية، ويساهم فيها بمقالاته السجالية العديدة. لعلها أصابت فعلا بتوجيهها السؤال له فمن غيره يخبرنا الخبر اليقين بزيارة نزار قباني لمعهدنا؟ - نعم نظيرة.. مؤكد..زيارة المعهد محطة أساسية من محطاته، وبعد أمسيته سيكرم من طرف بلدية وهران. أجابها دون تبجح وبصوت هادئ يعكس تواضعه، وقع وقعا لطيفا من نفسي، ( أمين ) الذي أصبح قلبي يرسل عينيّ سرّا للبحث عنه، ثم يرتاح بكل أنانية كلما أخبرتاه أن المحبوب ابتعد عن معجباته الكثيرات، وعن الطالبة الشاعرة القادمة من المدينة الحدودية التي كانت تقاسمه غرفته لمدة عدة أشهر، الصراحة تزعجني لجنة الوساطة المكونة من أهل الخير الطالب الكاتب (و) وحمزة و فتيحة وعبد السلام، فمازالت تحاول رد "الزوجين" إلى عشهما. ردُّ أمين الزاوي على "نظيرة" لم يفاجئني، فلقد سبق وأن سمعتُ تردُّدَ خبر زيارة نزار قباني إلى وهران في مقر الإذاعة خلال تسجيلي لبرنامجي (قصة الأسبوع ). بينما كان الطلبة يتلكأون أمام المدرج في تردد كسول للالتحاق بالمحاضرة،خرجت الآنسة "عمّارة "سكرتيرة معهد اللغة العربية وآدابها من مكتبها في الإدارة الواقعة على يسار المدرج، وهي تحمل الخبر اليقين، تعلقه على لوحة الإعلانات تحت نظراتنا.. إذن لا شك سيقوم نزار قباني بزيارة لجامعة السانيا ولمعهدنا بصفة خاصة يوم الثلاثاء، ثم سيقيم أمسيته المنتظرة في قاعة "سينما المغرب" الواقعة في شارع العربي بن مهيدي القريبة من بيتنا. ليس سرا ولا عجبا استقبال معهدنا لأسماء أدبية و فكرية كبيرة، مثل البياتي، و نزار قباني، وجورج الراسي، و أندري ميكيل، وغيرهم، حين نعرف أن الذي كان مديرا عليه آنذاك هو الأديب الكبير الدكتور عبد المالك مرتاض. ركبتُ الحافلة البرتقالية ذلك الصباح الضاربة شمسُه في النعومة، متجهة نحو الجامعة بعد أن رافقتُ زوجة أبي إلى عيادة طبيب الأسنان الواقعة في" بلاس دارم". في مقعدي حذو النافذة، لم أستطع التركيز في قراءة الكتاب الذي بين يدي وهو عن الفيلسوف( بيكون )، إنه من سلسة منشورات "كوسيج" التي يعتني أبي بتحيينها وتجديدها باستمرار. كان خاطري منشغلا جدا، مشتتة الأفكار كنتُ .لست أدري بالتحديد لماذا. نزلت من الحافلة البرتقالية في محطتها الأخيرة أمام الباب الكبير لجامعة السانيا، وجدتُ صديقاتي اللواتي يقطنّ الحي الجامعي في انتظاري كالعادة. اتجهنا نحو المعهد ونحن نرفل في الضحكات المرحة. لا شيء غريب على المشهد سوى بعض السيارات الفارهة الغريبة الرابضة أمام معهد اللغة العربية و آدابها، وجمهرة من الأساتذة والطلبة عند باب القاعة الشرفية للمعهد الذي فُتح لضيفه الكبير. ترددتُ في الدخول على الرغم من تشجيع نظرة أستاذي الدكتور عبد المالك مرتاض وقوله لي إن جميع الطلاب الكتاب مروا ليسلموا عليه. وبخطوة مترددة اتجهتُ نحو القاعة، كانت مصفوفة بالكراسي الأنيقة العامرة بالضيوف، أغلبهم قدموا من العاصمة.كان الضيف الكبير يتوسط المجلس الجميل. وبينما أنا أعبر الباب مترددة أتعثر في خجلي، وإذا بنزار قباني فجأة يوجّه بصرَه إليّ، ثم يشير نحوي بذراعه وهو يقول متوجها لمن حوله، وقد ارتفع صوته المتميز العميق قليلا: - إنها شاعرة ..! هذه شاعرة.! الدكتور مرتاض دعاني بلطف وكذا بعض الأدباء الشباب منهم أمين و الشاعرة تلك التي تعشقه، وبعض مثقفي المدينة والأساتذة إلى الغذاء مع نزار قباني ووالي المدينة في مطعم على شاطئ كاناستيل. كنت حزينة لأنني لم أحصل على موافقة والدي. في مساء ذلك اليوم الكبير، ذهبتُ إلى أمسية الشاعر نزار قباني التي أقيمت بقاعة سينما المغرب القريبة من بيتنا. كانت غاصة على آخرها، جاء محبو الشعر من كل مكان، من جميع مدن الغرب الجزائري. أخذتُ مكانا لي ولأختي ليلى في الصفوف الأولى. رأيتُ وجوها أعرفها منها الدكتور المنوّر الصم، والفنان الصايم الحاج، و المؤرخ محمد قنطاري الذي قام بتقديم الضيف الكبير، والصحفي بلقاسم بن عبد الله، والأديبة أم سهام، والقاص عمار بلحسن، والكاتب حميد سكيف، والصحفي عز الدين بلكدروسي، والصحفي رويبي صالح. كان الصف الأول خاصا بالرسميّين والوزيريّين، تألق من بينهم مدير الشؤون الدينية الشيخ الزبير الذي كان يكبّر عند كل بيت نزاري، ويرفع ذراعيه ثملا بالشعر الحلال. كاميرات التلفزيون الجزائري التابعة للمحطة الجهوية بوهران، نقلت الحفل بحرارته وجماله وبهائه، وأعتقد أن الأرشيف مازال يضم بين أضلعه الدافئة تلك اللحظات الحارة . - يا ..هاذي هي اللي شفناها البارح في التلفزيون...! ظللتُ ولمدة طويلة، كلما مررتُ في مكان ما، من الطريق إلى المتجر إلى المكتبة..إلا ويذكّرني أحدٌ ما بحضوري في تلك الأمسية الرائعة، وبأنه شاهدني على شاشة التلفزيون الناقلة للخبر. لم أكن أدري أن الكاميرا ذلك المساء كانت تخطف وتكبّر صورة وجهي الهادئ المأخوذ بشعر نزار قباني، هذا المبدع القادم من بيروت ليغرد في وهران. مدينتان تغمسان أرجلهما في ماء البحر الأبيض، ورأسيهما في دوخة الشعر وسِحْره.