حينما يضحى الفنّ سلاحا ذو حدّين ، والانتماء الى جغرافية غير الحدود الأصلية ، تبقى هنا معادلة الوجود واثبات الذات مصطلحا تعتريه العديد من الاتّجاهات ذات أبعاد قاب قوسين أو أدنى أقرب الى الانتحار البطيء بعيدا عن الوطن الأمّ التي تحنّ الى فلذات كبدها وتربث على أكتاف ذويها مانحة إياهم بصمة من الأمل الدّفين الذي يبقى شاخصا وضاربا في الجذور حتى وان اشتدّت العواصف عواصف الحصار وزوابع حظر التجوّل . هذا هو حال ابن فلسطين الدّكتور النّاقد وأستاذ الدراما " نادر القنّة" المقيم بالكويت ، والذي شاءت الأقدار أن يتواجد في وطن غير وطنه ، وتلفح محيّاه شمس غير شمس وطنه ، وتطأ قدماه أرضا غير وطنه حتّى وان كان الوطن العربي وطن كلّ العرب وحدوده حدود كلّ عربيّ تسري في عروقه دماء العروبة والقومية . انّه صاحب جذور فلسطينية ، ترعرع في الكويت وتربّت في أناه الباطن جذور الانتماء الى وطن آخر في الضفّة الأخرى ، قضية الانتماء الى وطن آخر ، اسمه فلسطين قضية شغلته دائما ولا تزال تؤرّق وجوده ، وهو يعلّق الآمال ويطرح في اليوم الواحد ألف سؤال الأهم فيه هل يمكن في يوم من الأيام العودة الى الأراضي ؟ الحلم هذا يبقى حلما قائما بذاته ، وميلادا واعدا ، شغل نفسه بانتظار الميلاد بالمواكبة على العلم وتحصيل المعرفة ، لتكون الكلمة لديه مشعلا وشمعة لن ينطفئ فتيلها الى حين إنارة دربه بالأراضي الفلسطينية ، فالشغف العلميّ لديه مفتاح العودة ومعانقة تراب فلسطين . في سنّ مبكّرة للقنّة اكتشفت ميولاته الأدبية ، ليكون ممارسة المسرح ، الاشتغال بالإذاعة والصّحافة البديل الوحيد لتعويض الوطن لبرهة ، والأنيس الوحيد لإطفاء شغف الوطن الى حين . أكمل دراساته في القسم الأدبي ، تخرّج من المعهد العالي للفنون المسرحية لينكبّ على النقد والعمل المسرحي ّ ، الكلمة لديه أساس الوجود ، هو المحمّل بالكلمة وتأويلاتها ، المحمّل بهموم الوطن الذي حوصر بكلمة ، واضطهدت حقوقه بكلمة ، وسيتحرّر بكلمة ، الكلمة لدى نادر الشّغل الشاغل ومحور الصراع القائم ، وهو يتذكّر جيدا مقولة معاوية " الفرق بيني وبين عليّ ، أنّ عليّا تصنعه الأحداث أمّا أنا فتصنعني الكلمة" . الكلمة في هذا عزّزت ميوله القومي ، ونخوة العروبة التي تعدّ قضية مركزية في الوطن العربيّ الذي لربّما قد يتقاعس ويضرب عرض الحائط حماس شبابه وجديّة قضاياهم لاسيّما منها العلمية ، فيعدّ مغتربا وان حواه العالم العربي بأكمله وبأقطاره ، فالسيّد يبقى سيّدا في وطنه . في رسالة أطروحة الدّكتوراه وبسبب عطشه لمياه الأراضي الفلسطينية وشغف معانقة تربته كان موضوع الرسالة " القضيّة الفلسطينية قي المسرح الفلسطيني " الموضوع هذا الذي كان شاقا ومتعبا ، أين صادرت الجمارك العربية كلّ المصادر والمراجع واعتبرت مشروعه العلمي مشروعا مهدّدا للقومية العربية ، لتكون العروبة ههنا ملتبسة وتحاك الدّسائس ، وكان المشرف على رسالته آنذاك مصريّ ورفض أن يناقش " نادر القنّة" أطروحته ، وهنا كان الاغتراب ذا أوجه متعدّدة . ترك حينها مصر عام 1993 وانتقل الى جامعة نايتس برغ التي قبلت أطروحته بشكل مباشر فيه كثير من التّنويه والتّشجيع بمدى عمق الموضوع ومساسه بجوهر قضية إنسانية ، أين اشرف على أطروحته بلندن الدّكتور الألماني " فون زوغ باش" ليتخرّج عام 1996 بتقدير وبرسالة من اللّجنة مفادها كونه رائد مسرحيّ في هذه المنطقة وفي جغرافية غير جغرافيته . عام 2007 رشّح الدّكتور " القنّة" للإشراف على رسالة تخرج لهيثم خواجة من سورية تعالج القيم التربوية والجمالية في مسرح الطفل، الدّكتور " القنّة" مدرك تمام الإدراك ومؤمن بقطار العلم والمعرفة الذي يسلكه على سكّة كلّها تحدي ومثابرة ، وهو يعتزّ كون السادية التي مارسها عليها ذوي النفوذ في زمن معيّن قد خدمته ومكّنته من المضيّ قدما لينصّب أستاذا للدراما وعلوم المسرح بجامعة الكويت خلفا للأستاذ المصري الذي رفض أطروحة القضية الفلسطينية في المسرح الفلسطيني . عن تجربته بلندن أكّد أنّ الثقافة الأنجلو ساكسونية فتحت العديد من الآفاق أمامه بخاصة في حقل النقد أين تعلّم وفقه بأن يكون نمط التفكير هو من يشغل النّاقد لا المعلومة ممّا يفتح شهية البحث والتّنقيب وتحصيل الفائدة العلمية والمعرفية على حدّ سواء ، وأن الأزمة التي يعاني منها البعض هي أزمة عقل وتفكير جديّ وموضوعيّ. الآفاق التي فتحت أمامه مهّدت له المسرب ليتمّ اختياره عضو لجنة تحكيم في العديد من المهرجانات الدّولية ، وكان له شرف أن يتقلّد وسام أوّل عربيّ يقتحم مهرجان الفخر في إيران بعد ثلاثة عقود ، وأول عربيّ في مهرجان والسو في بولندا ، وكذلك في مهرجان أصفهان الدّولي ليعاود الحنين الى بيت برخت الألماني . الدّكتور " نادر القنّة " بحكم اغترابه والقدر الذي أراد أن يرى النور بأرض غير أرضه اتّخذ العلم والمعرفة مشروعه ، ومنح لقب رائد المسرح الفلسطيني ، بحكم أطروحته وباعتبار أنّ البذور الدرامية الفلسطينية بذور نضالية تؤسّس لمسرح نضالي ، والصّراعات الأيديولوجية كانت ولا تزال عائقا أمام الانسان الفلسطيني صاحب الحقوق المشروعة . هو المحمّل بالهموم العربية ، يرى أنّ النّقد المسرحي العربيّ في أزمة ، بحكم العلاقات المتبادلة مع الحركة النّقدية التي تؤسس للإبداع ، في وقت تبقى الدّراسات حبيسة الأدراج ، أين يتحوّل النقّاد الأكاديميّون من مبدعين الى موظّفين وهنا النّقد الوظائفي يبنى على العلاقات على حساب الكفاءات الشابة والإبداعات الجادّة . وعليه ، فانّ البيت العربي في مسيس الحاجة الى لملمة شتاته وترتيب فوضاه كما العملية النقدية التي في أمسّ الحاجة الى تنظيم من حيث الخطوة الأولى التي تعتمد في جوهرها على إصلاح الواقع النّقدي ، فما أحوجونا الى رسكلة ميدانية ، واتّخاذ على عاتقنا مسؤولية تأسيس الدّوائر النقدية كمرجعيّات حتّى لا نفكّك المفهوم القومي ولا يسود المفهوم القطري . القضية ههنا قضية تقبّل وقناعات ، فالعمل على السكّة المنوطة عمل شائق في معادلة التلقّي والاستهلاك ، والنظر الى أبعاد تصدير المعلومة بأبعادها الثلاثية من مرجعية علمية ، كفاءة وفرض رأي . إن الدّكتور " نادر القنّة" بحكم كفاءته وتمكّنه من الحقل النّقدي يبقى لديه أمل واحد وهو أن تطأ قدماه أرض فلسطين ، بيت المقدس ، وهنا يؤكّد أن الوطن العربيّ برمّته في كفّة وفلسطين في كفّة أخرى ، ويتحيّن الفرصة كلّ لحظة للاستقرار بأرضه وجذوره حيث اللاّرجعة ، على أمل قائم في معانقة الحريّة والتلذّذ بنسيمها .