بعد التحضيرات التي جرت على قدم وساق لرفع السّتار عن العرض الأوّل " ليالي آلموت" للمسرح الجهوي بسيدي بلعباس انتاج 2011 ، شاءت الصّدف أن يكون العرض الأوّل مبرمجا على ركح دار الثقافة " عبد القادر علّولة" بجوهرة الغرب الجزائري تلمسان ضمن فعاليات تظاهرة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية . "ليالي آلموت " لكاتبها " أحميدة عياشي" واللّمسة الإخراجية ل" عز الدين عبّار" الذي عوّدنا على الغوص في مكنونات الإخراج المسرحي بمقاييسه ومحطّاته التي تقود المتفرّج الى رحلة متباينة المعالم واضحة الرّؤى بأساليب متجدّدة ومستقاة من عمق الواقع المعيش ، لتكون " ليالي آلموت" بصمة أخرى من بصماته في حقل الإخراج المسرحي . وسط حضور جماهيريّ واسع رفع الستار عن العرض الأوّل" ليالي آلموت" الذي صنع أحداثه كوكبة من الممثلين هم "عبد اللّه جلاّب " ، " نوّار دليلة " ، " عبد الإله مربوح" أحمد بن خال" ، "حنان بوجمعة " ، " أبو بكر الصدّيق بن عيسى"، " هشام بوسهلة " " جنّاتي سعاد " ، " ياسين جوزي " و" موسى لكروت" . ليكون هؤلاء لسانا ناطقا مستحضرا لحقبة زمنية من التاريخ ومن الذاكرة الجماعية التي ما انفكّت تنادي بالانعتاق من براثن ماض مثقل بالأحزان تارة وبالأوهام تارة أخرى، مع سرد للأحداث المتسلسلة التي تميّزت بها " آلموت" الحصن المعروف بعشّ النّسر . العرض المسرحي الذي أسندت فيه السّينوغرافيا للفنان " عبد الرّحمان زعبوبي" كانت شاهد عيان على حضارة إسلامية في أوجّ عطاءاتها حتّى وان لم تخل تلكم الحضارة من براثن الطّمع ومخالب الغدر بحكم نرجسيّة السّلطة والحكم ، لتوقّع ميلاد الأزمنة على ثالوث الماضي ، الحاضر والمستقبل، مع استحضار الفوانيس رمز النّور والتحرّر الذاتيّ . والسّينوغرافيا المستعملة كانت رحلة وسط الوقائع على مرأى أناس كانت لهم يد في صنع الفارق ، بلمسات متباينة وحضور قويّ لتسلّم الريشة لأصحابها ويكون الإمضاء بالبنذ العريض ميلادا لجداريّة تسمّى حضارتنا الإسلامية ، في زمن الحشّاشين أو الاسماعليين مهما اختلفت المصطلحات ليضحى الهدف واضحا ألا وهو استنطاق الماضي الدّفين، واستحضار اللّحظة الآنية مع تفكير جديّ في مستقبل واعد فتيّ لتكون تلكم الأزمنة معبرا لكلّ من ساهم في بناء حضارة ما أو دكّ أساسها مهما كان متينا بحكم سلطة الحكم المعفون الذي من مسبّباته فيروس الجهل والطّمع المشحون بغصص قلق دفين، أبطال تلكم الدراما يأتون ويروحون كحلم عابر يأبى الرسوّ على مرفأ الانعتاق والتحرّر. " ليالي آلموت" كانت في الحقيقة ليلة واحدة وأخيرة دارت صراعاتها بين جدار مغنى "صفية " تلكم الأخيرة التي راحت تفرض وجودها بالرّغم من ألمها الدّفين، ومع ذلك راحت تناضل لتظفر بفضاء يضمن كرامة عيشها ، مع تسجيل خطاياها لتكون ثمرة خطيئتها الوحيدة " رباب" العصفور المغرّد وسط قفص الضّياع ، مع بلبل يأبى هو الآخر أن يظهر للعيان بالرّغم من الخطايا المتراكمة . مع تسجيل دور الراقصة والحالمة الآملة في إشراقة شمس تحنو منها لتنير محيّاها الذي أرهقته السّنون وتسجّل رغبة الحلم القابع في الأعماق على معبر التحرّر من براثن الصّدأ التاريخي والعفن السّلطوي ، لتكون و" رباب" ميلادا لشغف لن يطول، رسم مرارا وتكرارا ومع ذلك ظلّ حلما واردا . الاحتدام الحاصل في المغنى بين صفية ورئيس الشرطة المعروف بصاحب العين الواحدة كان الشافع الوحيد فيه الحنين الى ماض جميل ملطّخ بخطايا العبث والجريمة ، هو الذي فقد كلّ صلاحياته وما عاد ذلك المتجبّر، المتسلّط بل رائدا للمغنى أنيسه الوحيد الخمر واستحضار الأيّام الخوالي ، في وقت تماوجت فيه العواطف وطفت على سطح الحقيقة المزيّفة ، ليكون نظام الملك لبّ وجوهر الأزمات في زمن يأتون ويروحون فيه وتبقى الحقيقة صامدة ، متجليّة للعيان بالرّغم من لحظات الخوف من المجهول، ليبقى الحكم واردا بين مؤيّد ومعارض وبين رغبة الانتقام المتأجّجة كنار الهشيم . " ليالي آلموت " لمسة فنية جمالية ذات أبعاد واعدة ، كان فيها عمر الخيام الشاعر الولهان صاحب الرباعيات شاهد عيان على صراع لم ولن تخمد نيرانه ، كان بصيرا في رؤياه وحكيما في دلالاته ،وفي خضمّ كلّ هذا كان زاده شعره وقوته حكمته ومسايرته للأحداث تنمّ عن حنكة وبعد نظر ، في حين أبو زبيبة المعاقر للخمر كانت الكأس نبراسه والأمل زاده في مواقف متشابكة بين ماض جارح ، وحاضر مؤلم مع مستقبل مجهول الهوية ، ليعدّ بذلك ورقة رابحة وشخصا جريئا في مجابهة أهل المغنى فالخمر وان أفقده توازنه فلم يفقده هو الآخر حكمته . ليكون نظام الملك ورجال الصبّاح على فلك واحد مثقل بالصّراعات ومثخن بالدّواخل ، أين يضحى تحقيق المصير سلاحا ذو حدّين وسكّينا يريق دماء كلّ آمل في التحرّر مفعم بالتفاؤل والمضيّ قدما ، والضحايا معروفين باسم الحراس ورجال حسن الصبّاح أول من يتلقون الضربات في وقت تكون الجدار العالية حماية لكلّ متجبّر ومتسلّط، أين تراق دماء الأبرياء في زمن غير الزمن ومكان غير المكان والتاريخ شاهد على التضحيات الجسام . إنّ ليلة المغنى الأخيرة صاحبتها نغمات كانت لحنا لكلّ لوحة بمآسيها وآمالها ، وعنوان كلّ أغنية وقّعها جمع الممثلين بحضور قويّ ونفس طويل في المساهمة في تحقيق جمال اللّحظة الآنيّة على نوتات لكلّ من محمودي عبد الغني ودحماني عبد القادر ، لتكون الملابس هي الأخرى رمزا للرّابط القويّ بين زمني الماضي والحاضر الذي ينصهر ليسهم في ميلاد فتيّ لحقيقة لن تبقى جامدة سيحين ميلادها بين الفينة والأخرى . " ليالي آلموت" حتّى وان كانت ليلة أخيرة كانت في الحقيقة ليلة مرتقبة مشحونة بالألم والأمل ، معبّقة بنفحات الجمال الباطنيّ لتكون إيذانا بميلاد آخر في زمن آخر أين ينتصر الانسان لنفسه ويتحرّر من قيوده التي كبّلته دهرا ، لتكون "ليالي آلموت" على معبر أضئ سينوغرافيا ليبيّن للمتفرّج المتذوّق قيمة الحضارة الإنسانية وأنّها مهما خمدت ستنبعث من جديد يوما ما في وقت قريب جدّا كبركان خامد سئم السّبات العميق ليفرغ ما بجعبته من حمم ، كحضارة ملّت التشدّق بمآثر الماضي ، وسئمت هي الأخرى لمسات الحاضر الموبوء بالخيانة ودحض الحريات بل آن الأوان لتنفض الغبار عن نفسها آذنة بمستقبل مشرق كلّه أمل في أمل مع توصية شعارها ردّ الاعتبار عاجلا أم آجلا. لا يفوتنا التّذكير أنّ ملابس الممثلين كانت من تنفيذ السيّدة " قادري نصيرة " ، أما انجاز الدّيكور كان للسيد " بشير لمية" هذا الأخير الذي يبدع كما العادة في أن يجعل الديكور حكاية متواصلة ، بحكم معاملته الفنية للمواد التي يستعملها والتي في مقدّمتها مادّة الحديد الذي يستنطقه ويحاوره ، وأنت تراه في ورشة تنفيذ الدّيكور لا تلمس مجرّد منجز للدّيكور وإنما تلمس لديه روحا إبداعية ما انفكّت تسعى للتحرّر هي الأخرى كما يتحرّر الحديد بين يديّ صاحبه ويضحى رمزا قابلا للاستعمال كمن يفكّ الشيفرة المحميّة ، معاملته له كمعاملة رجل عاشق لامرأة يقدّرها ويمنحها حقّها في العيش دونما قيود ، مانحا لها كلّ الأولويات وعلى رأسها حريّة الحوار وتبادل الرّؤى. تجدر الإشارة الى أنّ عرض " ليالي آلموت" للمسرح الجهوي لسيدي بلعباس سيعانق ستائر ركح المسرح الوطني محيي الدين بشطارزي ضمن فعاليات المهرجان الوطني للمسرح المحترف المزمع بعث فعالياته ابتداء من 24 من الشهر الجاري في طبعته السادسة.