إذا بطل السبب فهل يبطل الحكم؟ فإذا كان الخمر حرامًا لأنه مسكر، فإذا لم يكن مسكرًا، فهل هو حلال؟ وإذا كان سفر النسوة دون محرم حرامًا؛ خوف الفتن، فإذا أمنت الفتن أمنًا تامًا، فهل يصير حلالًا؟ الإجابة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد: فالقاعدة الأصولية المشار إليها هي قولهم: “الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا”، وصيغها التي تدور بها على ألسنة الأصوليين والفقهاء كثيرة، لكن من أشهرها: قولهم: الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا. وقولهم: الحكم يدور مع علته، أو سببه وجودًا وعدمًا. وقولهم: المعلول يدور مع علته وجودًا وعدمًا. وقولهم: العلة يلزم من وجودها وجود المعلول، ويلزم من عدمها عدمه، في الشرعيات. ومعنى القاعدة إجمالًا، هو: أن العلة كلما وجدت في محل، وجد الحكم معها، وكلما فقدت، فقد الحكم معها, كوجوب التحريم عند وجود الإسكار في شرب الخمر، وزوال التحريم عند زوال الإسكار، كما لو تحول الخمر إلى خل، قال ابن القيم: ولهذا إذا علق الشارع حكمًا بسبب، أو علة، زال ذلك الحكم بزوالهما، كالخمر علق بها حكم التنجيس، ووجوب الحد لوصف الإسكار، فإذا زال عنها، وصارت خلًّا، زال الحكم، وكذلك وصف الفسق، علق عليه المنع من قبول الشهادة والرواية، فإذا زال الوصف، زال الحكم الذي علق عليه، والشريعة مبنية على هذه القاعدة، فهكذا الحالف إذا حلف على أمر لا يفعله لسبب، فزال السبب، لم يحنث بفعله. انتهى. ودوران الحكم مع علته هو ما يسميه الأصوليون بالطرد والعكس، فالطرد: الملازمة في الثبوت؛ بوجود الحكم كلما وجدت العلة. فإن وجدت العلة دون الحكم، كان ذلك نقضًا. والعكس هو الملازمة في الانتفاء؛ بانعدام الحكم لعدم العلة. وهذه القاعدة هي: إحدى قواعد القياس، وقد قررها أغلب الأصوليين، وبنى عليها الفقهاء كثيرًا من الأحكام الشرعية، والمسائل الفقهية، قال العطار في حاشيته: المعلول يدور مع علته وجودًا وعدمًا. انتهى. وفي شرح تنقيح الفصول للقرافي: انتفاء الحكم بعد ثبوته في الصورة المعينة، يقتضي أنه لم يبق معه ما يقتضيه في تلك الصورة، وإلا لثبت فيها. انتهى. ومعنى ذلك: دوران الحكم مع علته وجودًا وعدمًا. وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: الحكم يدور مع علته وسببه وجودًا وعدمًا؛ ولهذا إذا علق الشارع حكمًا بسبب أو علة، زال ذلك الحكم بزوالهما. انتهى. وفي معالم أصول الفقه للجيزاني تقرير القاعدة، وربطها بقاعدة: “النظير يعطى حكم نظيره”؛ لأن مجيء العلة دون الحكم أو العكس دليل على اختلاف الأحوال والأحكام، وأنها ليست متماثلة، وإلا كان الحكم واحدًا والعلة واحدة، حيث قال: من الأحكام الشرعية ما يختلف باختلاف الزمان، والمكان، والأحوال؛ ذلك أن الحكم الشرعي يدور مع علته وجودًا وعدمًا، وهذا أيضًا دليل على أن هذه الشريعة إنما جاءت لتحقيق مصالح الناس، ودرء المفاسد عنهم. وكون الحكم الشرعي يختلف من واقعة إلى واقعة إذا تغير الزمان، أو المكان، أو الحال، ليس معناه أن الأحكام الشرعية مضطربة، ويحصل فيها التذبذب والتباين، بل إن الحكم الشرعي لازم لعلته وسببه، وجار معه، لكن حيث اختلف الزمان، أو المكان، اختلفت الحقيقة، والعلة، والسبب، فالواقعة غير الواقعة، والحكم كذلك غير الحكم. ولا بدّ من التنبيه هنا على أن لهذه القاعدة شروطًا، بينها الأصوليون، وأهمها ستة، نذكرها إجمالًا: أولًا: أن تكون العلة وصفًا متعديًا، يمكن تحققه في عدة أفراد؛ لأن أساس القياس مشاركة الفرع للأصل في علة الحكم، فإذا كانت العلة قاصرة على الأصل، لم يصح القياس؛ لانعدام العلة في الفرع. ثانيًا: أن تكون العلة وصفًا ظاهرًا جليًّا، فالعلة الخفية لا يمكن معرفة مناط الحكم فيها إلا بعسر، وحرج، وذلك منتف شرعًا. ثالثًا: أن تكون العلة وصفًا منضبطًا: بأن يكون محددًا متميزًا؛ حتى يمكن التحقق من وجودها في الفرع بحدها، فلا تختلف باختلاف الأشخاص، والأحوال، والأماكن، لكن لو كان الخلاف يسيرًا، فإنه لا يؤثر. رابعًا: أن تكون العلة مناسبة للحكم، بحيث يغلب على ظن المجتهد أن الحكم حاصل عند ثبوتها لأجلها، دون شيء سواها، فهي مظنة لتحقيق حكمة الحكم. خامسًا: أن تكون العلة سالمة، بحيث لا تخالف نصًّا، أو إجماعًا. سادسًا: أن تكون العلة مطردة، كلما وجدت وجد الحكم. وفي بعض هذه الشروط خلاف، وتفصيل، ليس هذا محل بحثه، واستقصائه. تنبيه آخر وهو: أن الحكم الواحد قد يوجد مع علة، وقد يوجد نفس الحكم مع علة أخرى غير الأولى التي وجد معها، وقد يوجد مستقلًّا من دون علة، وقد بين شيخ الإسلام هذه المسألة وأثرها، فقال: العلة إذا عدمت، عدم الحكم المتعلق بها بعينه، لكن يجوز وجود مثل ذلك الحكم بعلة أخرى، فإذا وجد ذلك الحكم بدون علة أخرى، علم أنها عديمة التأثير، وبطلت، وأما إذا وجد نظير ذلك الحكم بعلة أخرى، كان نوع ذلك الحكم معللًا بعلتين، وهذا جائز. انتهى. وموضوع العلل ومسالكها، وتخريج مناطاتها، وتنقيحها، وتحقيقها، من وظيفة العلماء المجتهدين الذين مارسوا هذا الفن، وسبروا أغواره، وليس من وظيفة آحاد الناس، وعوام طلبة العلم.